بقلم : عائشة السعيدية
جلست على الشاطئ أراقب صغيري وهو يلعب بالرمل عندما أقبلت علي فتاة مهذبة تبدو ملامحها مألوفة لدي لتحييني بلهفة وسعادة أخجلتني من نفسي لأنني في تلك اللحظات لم أتذكرها جيداً ، لكنها سارعت بتعريفي بنفسها مبدية تقديرها لأنني بكل تأكيد لن أتذكر كل طالبة علم كانت ضمن قائمتي يوما .
تذكرت تلك الفتاة الراقية وفي لمحة سريعة مر بذهني مكان إقامتها لأبادرها بالاطمئنان عليها وعلى أهلها بعد أهوال إعصار شاهين الذي مر بهم وهو من الدرجة الاولى في 4/10/2021
وقفت واجمة وكأن سؤالي كان صفعة قوية لم تتوقعها وجلست على المقعد الذي كنت أجلس عليه وجلست بجانبها لأجد دموعا تنهمر لعلي فتحت جرحاً لم يشف بعد ووجدت نفسي أصبت بخرس فجائي لم تسعفني حروف الدنيا لأنطق كلمة مواساة أو اعتذار أو أي شيء.
احتضنها .. ثم قالت وهي تنشج : ألم يصلك أستاذتي ما حل بنا وبقريتنا الوادعة الآمنة كما رأيتها في زيارتك لها؟
قلت مجيبة بصوت لا أدري سمعته أم لا من الغصة التي ألجمتني : بل سمعت
أكملت: لا أعتقد أن الواقع قد وصلك مكتملاً..
تركتها لتتحدث بصوت مخنوق ودموع تنهمر ..
لقد فقدت جدي وجدتي وإخوتي بعد أن جرف الوادي منزلنا من أساساته بالكامل ولم يبق منه أثر
أبي جرفه الوادي أيضا ليتعلق في أحد أعمدة توصيل الكهرباء وليبقى إلى الآن لا يستطيع التحدث من هول الموقف الذي مر به ليجد نفسه بين الحياة والموت في اللحظة التي لم يستطع إنقاذ والديه ولم نعد نرى إلا الدموع تنهمروكأنه يجتر الذكرى في كل لحظة.
لم أكن موجودة فالبيت لطبيعة عملي التي تعرفينها ليلتها كدت أجن ولا أدري ماذا أفعل و اتصل عليهم ولا مجيب فكرت في الذهاب إليهم لكنني لا أستطيع بسبب حظر الحركة في تلك الليلة المشؤومة.
وفي الصباح كانت وسائل الإعلام تبث المشاهد التي لم تخطر على البال يوما أننا سنشاهدها ..
هرعت إلى سيارتي لأذهب إليهم فكل الهواتف تعذر الحصول على المشترك المطلوب لكل من أعرفه هناك
ولكن الأمر كما تعلمين كان صعبا لانقطاع كل الطرق لم تكن هناك من وسيلة للوصول إليهم إلا بالطائرات التي بقيت لأربع وعشرين ساعة تالية وهي تنقل الناجين الذين وجدت أبي بينهم بعد أن علمت أننا علينا مراجعة أماكن الإيواء للقاء أقاربنا الناجين.
كان وقتا عصيبا ليومين وأنا لا أعرف مصير عائلتي ولا من يعطيك جوابا إلى أن التقيت أحد الناجين وأخبرني عن أبي أنه في المشفى لوضعه الصحي الحرج سألته عن بقية أسرتي قال لا يعرف وربما لم يستطع إبلاغي لحظتها لصعوبة ذلك عليه .
دخلت على أبي وهالني ما رأيت
تخيلي كل شعره تحول للبياض من رعب الموقف و لا يستطيع تحريك أطرافه ووضعه في العناية المركزة وحالته ميؤوس منها فجسمه لا يتقبل الحياة.
حاولت الدخول عليه وبعد عناء وتوسل دخلت وأنا منهارة داخليا أهذا أبي الذي كان رمزا لقوتنا ومنه نستمد الصمود في المواقف.
أخذت أهمس في أذنه وأتحدث إليه
أنا هنا يا أبي ..
أرجوك أنهض من أجلي من أجل حبيبتك الصغيرة
بقيت لساعة أتكلم لا أدري ماذا قلت وما الذي لم أقله له.
تركته ووضعه مستقر ، وذهبت للبحث عن بقية عائلتي في قائمة المشفى لكنني للاسف لم اجدهم.
قيل لي اذهبي لمركز الإيواء وللدفاع المدني ، ذهبت ولم أجد جوابا
قدمت بلاغ مفقودين
بدأت أنهار داخلياً وأنا أرى سكان قريتي لا أحد يعرف عن الآخر أحي هو أم ميت .
بقيت مع ابي بعد أن تركت رقم هاتفي للتواصل في حال وجدوا مفقودا بالأسماء التي قمت بالابلاغ عنها
ويبدو أنه بدأ يشعر بوجودي معه فبدأ بتقبل العلاج والتحسن ولله الحمد
مر أسبوع وأنا لا أنام ولا آكل جيدا
بدأت في الضعف والمرض ودخلت الطواريء لاحصل على مغذيات وريدية ومنوم لثلاثة أيام لم انتبه .. انتبهت مفزوعة على أبي لأهرع عليه ووجدته منتبها لكنه لا يتكلم.
علمت أن الجهات المختصة أعادت فتح الطريق للقرية ، حملت نفسي منطلقة إلى هناك وليتني لم اذهب… لم اتخيل المشهد وأنا أقف هنا وأرى أرضا قاحلة .. مكان البيت رملة ممتدة كأنني في هضبة رملية على جانبي أحد الوديان التي اعتاد أبي أخذنا إليها للإستجمام والمتعة…
أين بيتنا وبيوت الجيران وبقية البيوت التي أصبحت قفرًا من بعد عين
جلست على الرمال لا أدري كم من الوقت مر علي
أين جدي وجدتي واخوتي أين بيتنا العامر بالضيوف وأصوات كبار السن في القرية الذين لا يفارقون جدي على قهوة الضحى والعصر وأحيانا في رمسة بين المغرب والعشاء.
اين جدتي التي ما تركت تطريز ثيابها المميزة بيدها المباركة وتحاول تعليمي إياه ولكنني لم أكن اتقبل الفكرة ..
أين أخوتي نتشاكس ونتضارب ونتدافع ونضحك ونبكي ووو.
لم أجد جوابا .. ولن أجد … ربما داخلني اليأس فجأة أنني لن أراهم مجدداً… أصابني خدر غريب في جسدي وبقيت مكاني بلا شعور إلى أن حل الليل المظلم على قريتنا المضيئة التي ما عرفتها مظلمة مذ جئت إلى الدنيا.
لا اعرف كيف تمالكت نفسي وفارقت المكان وعدت إلى أبي بلا حواس ولا شعور .
وجدته وقد تم إخراجه ولله الحمد من العناية المركزة إلى قسم الملاحظة وهذا مبشر بتحسن حالته.
لاول مره أبي يفتح عينيه وينظر إلى كانت شاردة يراني ولا يراني ارتميت في حضنه لكنه لم يضمني كما عودني.
تصدقين .. لم أبكِ ولم يبكِ أبي لا أدري لماذا… ولا أدري كم بقيت هناك وكأنني دخلت في غيبوبة إلى أن جاءت الممرضات لمتابعة حالة أبي الصحية.
بقي ابي أسبوعا آخر في المشفى وأصبحت صحته تساعده على الحركة والمشي من جديد.
خرجت به من المشفى ، وعندما ركبت السيارة جاءني ذلك الإحساس المريع ، أين اذهب به ؟
أين نذهب أنا وأبي ؟
هل يفكر أبي أن يعود لبيته ؟
هل سيتحمل أن يرى ما رأيت؟
هل سيتحمل رؤية جثث أبيه وأمه وأبنائه بعد ان انتشلت من وحل الوادي بعد انخفاض منسوبه ؟؟
ماذا أفعل يارب … كيف أكمل الطريق ؟؟
أخذت أبي معي إلى حيث أعمل وكرست حياتي للعناية به
والحمدلله صحته الجسمية افضل لكن عقله لم يتقبل الى الان ما حدث،كلما زادت الذكرى أصبح يئن كمن تضعين جبلاً على صدره لكن رحمة الله اوسع به وبي.
وأبشرك أيضا أنني التحقت بأحد الفرق التطوعية المساندة للمتضررين من الحالات الإستثنائية مثل شاهين وغيرها وقدمت معهم ولله الحمد العديد والعديد من جوانب الدعم المالي والنفسي والاجتماعي وكل ما أجيده.
والان ولخبرتي في تطبيقات الحاسوب أعمل على تصميم تطبيق يتم من خلاله التسجيل والتواصل في أي حالة طارئه لنصل إليهم أسرع لنقلل من المخاطر والآثار المترتبه عليها.
وجدتني مأخوذة معها وهي تحكي واحدة من آلاف المواقف التي مرت في تلك الليلة وكانت نقلة في حياتهم جميعا.
استأذنت تلك النبيلة عائدة إلى والدها الذي أحضرته معها إلى الشاطئ ليستمتع بهوائه العليل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصص ملهمة لرائعين تغلبوا على بؤس الحياة بكثير من الصبر والإيمان
تعليقات
إرسال تعليق