بقلم : محمد الصناعي
وكانت العرب قديمًا تعدّ الخمول من العيب، ولا أعني هنا بالخمول الذي طرأ على خواطركم مرادفًا للكسل، وإنّما أعني به الخمول المضاد للشّهرة. فالعرب تقول مشهور لمن ذاع صيته بين النّاس كمصفى المومري، وتقول خامل لمن مات ذكره وهو على قيد الحياة مثل كاتب هذا المنشور وقارئه.
طبعًا، احتلت الشّهرة هذه المكانة في نفوس العرب، لأنّها تؤخذ بأسباب لها مكانها العليّ في قلوبهم وعقولهم.
فالمشهور فيهم إنّما أشهره علمه أو أدبه أو كرمه أو فنّه أو حلمه وسّؤدده.. وإلى ما هنالك من الأسباب التي تخلو من كلّ سببٍ وضيعٍ ذي منقصة- فلم يكن هناك تيك توك، ولا سناب شات، ولا ترند القمر نزع الحجاب- وبالتّالي إنّما يُعاب الخامل لخلوه من كلّ تلك الشّمائل التي تمكّن صاحبها أن يلفت انتباه العالم، وما دام للشّهرة عند قومٍ مسالك نبيلة، فلابد أن تكون غاية نبيلة، وليس مثلما يجري في زماننا اليوم، تطلب الشّهرة لذاتها ولا شرط ينزّه مسالكها عن سكك المجاري أعزّكم الله.
وثقّ لو أن العرب القدامى رأوا مثل مشاهيرنا اليوم، لعدّوا الشّهرة من العيب، ثمّ حثّوا على الخمول.
أقول قولي هذا واستغفر الله عليه أنّه ما أنصف حقيقة ولا أرضى منصفًا، فليس صحيحًا أن الأقدمين أكبروا الشّهرة إجلالًا لأسبابها لا لذاتها، ولكن من ساءه زمانه ظنّ كلّ قديم مثاليًا..
إنّما..
من يقرأ التّاريخ جيدًا يجد للحقيقة قصصًا كثيرة.
تقول بعض القصص إن أمًّا أوصت ابنها وصيّة نسيتُها لفظًا، ولكنّي أحفظها معنًى عن ظهر قلب، فكأنّي حين قرأتها تقول له:
أي بُني. إذا كنتُ في نادٍ للقوم، وكلٌ يدلي بدلوه، فأيّاك أن تقعد مقعدًا للسّكوت خاملًا، وإن لم يكن لك من القول فصلًا ولا من الرأي ملفتًا، فعلّق على عنقك حِذاء، تُذكر بها.
يا سبحان الله!
أمّا وقد كان اللهث وراء الشّهرة وصيّة أمّ، فعلامَ نعيب زمانًا صرنا إليه؟!
ربّما كلّ العرب- في ذلك الزّمان- قد ركضوا خلف الشّهرة بطريقة أو بأُخرى.
ركض خلفها الذي يهواها، والذي لا يهواها ركض فرارًا من عيب الخمول.
من أجل ذلك، اشتهر من بال في بئر زمزم أعزّكم الله.
أما بعد، ما هي الشّهرة وما هيتها؟
الشّهرة في قاموس الأخلاق ليست في ذاتها رفعةً ولا ضعةً، إنّما صفتها موكلة إلى أسبابها. تلك الأسباب التي أفضت إليها تُقضي في أمرها وأمر المشهور.
فالنبي- صلّى عليه الله- اشتهر، ومدّعي النّبوة- لعنه الله- اشتهر أيضًا، ولكن الفرق بينها كما ترى.
إذن أنت ترى الشّهرة خيرًا ما سُلك إليها طريقًا خيّرًا، وتراها شرًّا ما سُلك إليها طريقًا أشرّا؟
كلا، بل أراها شرًا ما سُلك إليها طريقًا.
- ما هذا، أما قلت الشّهرة موكلة إلى أسبابها، إن خيرًا، فخير، وإن شرًا، فشر؟!
إن كنتُ قد أخطأت وقلت إن الشّهرة غاية، فقد أنساني الشّيطاني أنّي مسلم وأن الله غايتي، فأستعيذك اللهم منه، وأصلي على نبيك القائل:
«من لبس ثوب شهرة في الدّنيا، ألبسه الله ثوب مذلّة يوم القيامة».
تعليقات
إرسال تعليق