القائمة الرئيسية

الصفحات






بقلم :محمد الصناعي


الذين قالوا يوم حنين: "لن نغلب اليوم من قلّة.."، قال لهم ربّهم: (ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلّة)!

قال (أذلة) ولم يقل (قلّة) صورة تشمل قلّة العدد وضعف العتاد.

هذا التّقريع اللفظي سبقه تأديب معنوي ضيّق عليهم الأرض بما رحبت.. 

{ولقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} (25)

انتصروا وهم ثلاثمئة، وولوا مدبرين وهم اثناعشر ألفًا!

هنا تجد خانة المئات أكبر من خانة الآلاف، فلا مجال للتّحليل العسكري في معادلة كسرت قواعد الرّياضيات.

 معادلتنا: {و أعدوا لهم ما استطعتم من قوّة...}

لم يقل مثلما أعدوا لكم، العدد بالعدد والعتاد بالعتاد، إنّما قوّة حدودها الاستطاعة نلقى بها العدو، ولا نرى فرقًا إن كانت ضعف قوّتهم أو كانت عُشرها.

ذلك يعني أن نصرنا غير مرهون بقوّتنا، فلماذا نعدّها إذن؟ 

إنّها تكليف كسائر التكاليف التي يجب أن تُبذل في حدود الاستطاعة، وإلا لم الحياة دار عمل؟

مثلما نسبغ الوضوء لأنه من شروط الصّلاة المفروضة، نعدّ القوّة لأنّها من شروط الجهاد المفروض. 

وكما نصلّي مؤمنين أن القبول من الله لا من إسباغ الوضوء، نجاهد مؤمنين أن النّصر من الله لا من إعداد القوّة!


في بدر، أعدوا ما استطاعوا من قوّة وذهبوا بها للسبب لا للنتيجة، لأنّهم آمنوا أن النّصر لا يُعد له في الأرض، ولكن يؤذن له في السّماء، ولولا إيمانهم هذا ما نفروا لعدوّهم وهم (أذلّة).

وفي حنين، أعدوا ما استطاعوا من قوّة وذهبوا بها للنتيجة لا للسبب، لأنّهم أُعجبوا بكثرتهم، فعلّقوا عليها رهان النّصر.   

  لمّا قالوا (لن نغلب اليوم من قلّة)، ذكّرهم الله بنصره وهم أذلّة، وحيث أعجبتهم كثرتهم، ضيّق الأرض عليهم بما رحبت..


حينما تجد تأديب الله عزّ وجل وخطابه لأصحاب بدرٍ على هذا النّحو وبهذه اللهجة، لابد أن ترتجف خوفًا ورهبة، وأنت تتساءل، ما بالنا نحن في حالنا هذا!؟

لا نعدّ للعدو ما استطعنا من قوّة، ولا ننفر للجهاد كثرة أو قلّة، ولا حتّى الشّعائر تنال منّا حقّها!

ونعيش الهزائم والذّل على أنّها ابتلاءات، دون استشعار للتفريط ولا تأنيب للضمير!

 هل يقودنا انقطاع الوحي إلى الغفلة والتّمادي في التّفريط، وكيف يكون هذا والقرآن بين دفّتينا، وسنّة المصطفى من خلاف؟!

* "ما من طامة إلا وفوقها أخرى، والبلاء موكل بالمنطق والكلام ذو شجون".

إن الحديث عن فارق الإيمان في سيرة الحرب يثير سخرية أناس يقيمون الصّلاة ويصومون رمضان ويحجون البيت.. ويرون الحديث عن النّصر قبل أن نتفوق على أعدائنا قوّة أو نتساوى معهم، حديثًا غير منطقي أو خرافة تشوّه الدّين!

تخيّل أن الذين أعجبتهم كثرتهم يوم حنين كانوا أقل من نصف عدد المشركين!

 عوقبوا على إعجابهم وهم أصحاب بدر، إنّما هو عقاب كريم السّماء لكرام الأرض، كرام أعدوا أنفسهم لحنين، والكريم يعدّهم لفارس والرّوم وللدّنيا بأسرها، فما تجاوز سهوهم عن قلّة بدر إذ أعجبتهم كثرة حنين.

 أخطأوا، فكانت الغزوة درسًا قاسيًا علّمهم ألا ينظروا في ميزان القوى على الأرض مرّة أخرى، ولا ينظر من يأتي على أثرهم وهم بويضة الإسلام وقدوة المسلمين، فمن تغرّه كثرته اليوم، ستخذله قلّته غدًا، ولا نصر لمن يزن قوّته قبل اللقاء.

فأدبهم فأحسن تأديبهم، فكانت قلّتهم في الفتوحات عظةً في ديننا، وحيرةً في تاريخ أعدائنا اليوم.


في الغرب أستاذ تاريخ يلقي محاضرة على طلابه، كان وقورًا وكانوا في إصغاء، حتّى صار حديثه حول خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتحوّلت حصّة التاريخ إلى أستاند أب كوميدي، والقاعة إلى مسرح يعجّ بالضّحك!

لم تكن ضحكة السخرية أو الاستهزاء، كانت ضحكة الحيرة، يضحك بهستيريا من لا يملك تفسيرًا لما يحدث!

من جملة ما قال لهم:

تخيل أن ترى طوفانًا من الروم والفرس قوامه مئتا ألف مقاتل مجهز بأحدثت العتاد العسكري في ذلك التاريخ، وعلى الجانب الآخر يقف خالد بن الوليد بجيش بدائي من أربعين ألف مقاتل. 

وبينما أنت تنتظر أن يبتلعه الطّوفان، فإذا بك أمام مشهدٍ لا يستوعبه العقل!

 خمسين ألف من الروم والفرس ملقين على الأرض، قتلهم خالد ثمّ وقف بجيشه يتفرج على البقية وهم يتردّون من هوة جبل، ولك أن تتخيل صوت العظام المتهشم في ذلك التساقط!

كيف يحدث هذا؟ ماذا فعل خالد؟

وتساؤلات لا جواب لها غير الضّحك..

تعليقات