بقلم: ريحانة
جلست في ركن شرفتها تتذكر ، وأمامها فنجان شاي تفوح منه رائحة النعناع التي تعشقها، أحقاً مرت 5 أعوام من عمرها لم تحقق خلالها انجازاً واحداً!!
يالهباء الأيام! وياضيعة العمر !!
لم تكن فتاة عادية على الإطلاق، كان كل مافيها يوحي بالاختلاف، بالتميز وبالتفرد، كان استحقاقها للنجاح عظيماً ، آمنت منذ البدء أنها ستصبح علامة فارقة، فمن مثلها؟ جمالاً وادباً وعلماً، شغفها بالكتب ونهمها الشديد للقراءة جعل أعمامها يطلقون عليها "سوسة الكتب"، وهو لقب رافقها منذ أن كانت طالبة في مرحلتها المدرسية المتوسطة.
أيعقل حقاً أن تطلعات الماضي بمستقبل مشرق دُفنتْ تحت انقاض اليأس والقنوط؟!
يالسذاجة الأحلام، كم بَنتْ من وهم ليسقط لاحقاً على رأس المتوهم الحالم، ويا لفتوة الشباب كيف تشعل الحماس في عروق المرء حتى يخال نفسه ملك الكون في يمينه.
ارتشفت من فنجان الشاي رشفة صغيرة، وعادت بذاكرتها 10 أعوام للخلف، تذكرت تلك الحادثة الأليمة التى فقدت على إثرها حاسة السمع، تذكرت مرضها واكتئابها بعد ذلك لشهور طويلة، كيف اعتزلت صديقاتها، وكيف تنحّت بركنٍ قصيّ في منزلها، كيف أصبحت خارج الزمان والمكان، الجميع حولها لكنها وحيدة، استسلامها للحزن كان رهيباً، سقوطها في غياهب اليأس كان مدوياً، تعايشها مع يأسها و وضعها الجديد كان أمراً صعباً عليها، وعلى من يعرفها، تتذكر جيداً محاولات والدتها لجعلها تخرج للحياة، وخوفها أن يُفَوِت قطار الزواج ابنتها، تتذكر تساؤلاتها لماذا أنا؟ ما الذنب الذي فعلته لأستحق حرماني من نعمة السمع؟ كيف سأحقق أحلامي بعاهةٍ سأحملها في جسدي حتى أموت؟ كيف سأكون النصف المُكمّل لأحدهم وأنا الناقصة أصلاً؟ بأي وجه سأواجه هذا المجتمع؟ المجتمع الذي لابعترف سوى بشيئين الوجاهة والوساطة، إن كان صعباً على الإنسان السليم أن يكافح فيه لتحقيق حلمه وإحراز مكانة فيه، فكيف بإنسان أصم؟!!
تذكرت تقوقعها لـ 5 سنوات في المنزل، يسيطر عليها الخوف من مواجهة الحياة والناس، الخوف من فكرة العمل، الخوف من أن يراها الآخرون شخص ناقص، الخوف من نظرة شفقة تراها في عين أحد، الخوف من أن يرفضها المجتمع بحجة أنها ذات احتياج خاص، ورغم محاولة أسرتها دفعها للإندماج والخروج للحياة، لكن جهودهم تذهب دوماً أدراج الرياح.
كانت تعاقب نفسها وظلّتْ رغم التزامها الديني وعلاقتها بالله، دائمة العتب عليه، ما الحكمة من هذا الحرمان؟ وأيقنت أنها ستُفني عمرها وحيدة، وأنها لن تنعم بأسرة ولن يكون لها طفل يناديها ماما، صحيح هناك أشخاص صُم يتزاوجون ويلدون، لكنهم ولدوا صُماً، أن يولد المرء محروماً من نعمةٍ ما، أهون بكثير من أن بفقدها بعد أن اعتاد عليها.
رشفت من كوبها رشفة أخرى، وزفرت بسخط بالغ:
- يااااه، كم كنت حمقاء وساذجة!
وعادت بها الذكرى لـ 5 أعوام، للعام الذي نزحت فيه أسرتها للعاصمة هرباً من الحصار أو الموت برصاصة طائشة، فتحت لها العاصمة الباردة احضانها، شعرت كأنها وُلدت من جديد، تقبّلت اخيراً حقيقة انها صماء، وان هذا لايُغير من حقيقة أنها إنسانةٌ رائعة، و لايُنقص من امكاناتها شيئاً، أرادت لأول مرة منذ 5 أعوام أن تصبح فرداً فاعلاً، تريد ان تندمج في المجتمع، وكأن تغيير البيئة يُغيّر قناعات المرء، ويبدد مخاوفه، ترددت كثيراً من أين تبدا؟ وكيف تبدأ؟ لقد تأخرت كثيراً، ومرت السنين وهي متقوقعة على ذاتها، أرادت أن تعوض العمر غير المحسوب عليها، أرادت أن تعود للحياة من جديد، صمّاء نعم، لكني لست ضعيفة، او لنقل كنتُ كذلك.
فكرتْ أن النهوض لابد أن يبدأ من حيث كان السقوط، قررت أن تبدأ مسيرتها العملية مع فئة الصم التي أصبحت هي واحدة منهم، فتعلمت لغة الإشارة كمتطلب أساسي للتعامل معهم، وبعدها تم تعيينها كمحاضرة في الجامعة لقسم التربية الخاصة لفئة الصم، بعد رؤية أن مؤهلاتها تؤهلها بجدارة لتلك الوظيفة.
تذكرت وهي ترشف آخر رشفة من فنجانها كيف أنها خلال 5 سنوات فقط شغلت أكثر من 6 وظائف في جامعات ومنظمات مختلفة، أحرزتْ فيها نجاحًا. منقطع النظير، حققتْ معظم طموحاتها، أحبت الناس واحبت الحياة، زال سخطها على القدر، و رضت بمشيئة الله بقلبٍ مطمئن، وتنوعت أعمالها، تعرفت على صديقات بحق، واكتسبت زملاء مازالت تفخر بهم، و وجدت أيضاً من يحبها ويتقبلها كما هي وارتضاها شريكة لِعُمرهِ، ومُكمِّلة لدينه. والأهم من كل ذلك أنها وجدت ذاتها من جديد، واستعادت تألقها المعهود، وصارت تعلم جيداً كيف تعيش. وكيف تحول المَحنة إلى منحة.
من قال أن هناك انسان كامل!! وكلً منا لديه جانب نقص، منا من حُرم المال، ومنا من حُرم، الأبناء، ومنا من حُرم الصحة، والمحروم الحق من حُرم الخُلق، لأنه أشد أنواع الحرمان، ففي النهاية نحن بشر، ولكن يظل الخوف واليأس هما العدو الحقيقي للإنسان، وبالتأكيد،، يظل الكمال دوماً لله وحده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصص ملهمة لرائعين قاوموا بؤس الحياة بكثير من الصبر والإيمان
تعليقات
إرسال تعليق