بقلم : محمد الصناعي
كأس الماء، عادة مجتمعيّة حسنة وجدناها في ملحق التّاريخ، قيل جاء بها الأتراك واستحسنها العرب، فصارت من آداب الضّيافة.
تفيد العادة الحسنة في أن يُباشر الضّيف بفنجان قهوة، وإلى جانب الفنجان كأس ماء، ثمّ يُراقب الضّيف، فإن بدأ بشرب الماء، جيء له بالطّعام عقب ذلك، وإن بدأ باحتساء القهوة، كانت طعامه وشرابه.
لعلّها عادة حسنة فعلًا، فبيوت النّاس ليس مطاعم. تكمن أهميتها في أن تعفي الضيف حرج الطّلب، وتكفي المضيف مؤنة التّورط بطعام ربّما لن يؤكل، ولكن الكرم ليس عادة مجتمعيّة يا سادة، إنّه هبة إلهية مثل النّبوة فرديّة نادرة، والكرماء أفرادٌ نادرون مثل الأنبياء..
(قالوا سلامًا قال سلامٌ، فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذ)..
قديمًا، قبل أن يأتينا الأتراك ويصبح كأس الماء من آداب ضيافتنا، كان من حقّ الضّيف علينا تعجيل القِرى، لا امتحانه في لعبة الفنجان والكأس. فانظر قاب قوسين أنفا، هل ثمّ تعجيلٌ أعظم من هذا الذي ردّ التحيّة، بمثلها، ثمّ ما لبث أن..
أن ماذا؟ أن جاء بماء وقهوة؟
كلا، بل بأسمن وأشهى ما يؤكل من الطّعام!
أمّا بعد أن يُفتح بابك لكلّ من يطرقه كضيف كريم عرفته أو جهلته، وبعد أن تعجّل لضيفك بالقِرى ما أمكنك ومما أمكنك، ما ضرّك بعد ذلك أكل الضّيف أو أبى، فقد أدّيت ما يعفيك عن المسائلة العرفيّة والمحاكمة المجتمعيّة ولوم اللائمين، ولكن الكرم لم يكن يومًا من الأيام عُرفًا ولا تقليدًا، والكريم لم يكن مضيفًا يسقط واجبًا فرضته التّقاليد والأعراف..
(فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم)
نكرهم! وكأن الكريم يبقى جائعًا ما لم يأكل الضّيف من مائدته، ولا يبقى الضّيف ضيفًا إذا أمتنع عن الطّعام، والكريم يؤنّسه الضّيف كبعض أهله، ويتوجّس منه خيفةً، إن لم يكن ضيفا.
وقديمًا نصّت آداب الضّيافة على أن أمتناع الضّيف عن الطّعام يُنبئ عن نذير شرٍّ يحيق بالمضيف.. (وأوجس منهم خيفة)..
من أجل ذلك، فرضت الآداب على الضّيف أن يفطر إن كان صائمًا، ولأن ضيوف إبراهيم لا يأكلون الطّعام، قالوا قبل أن يُبدي لهم ما أضمر (لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط..)
نفدت كلماتي وفي المعاني بقيّة..
والله لو أن الآيات بما تحمله من معاني قد كُتبت بأسلوب أديبٍ هو أبلغ من عرف القلم إيجازًا، ما أسعفك العمر لتختم القرآن ولو تضاعفك لك سبعين مرّة!
ألا ترى هنا مثالًا بسيطًا؟
كلّ آداب الضّيافة، كلّ معاني الجود، كلّ صفات الكرم، ورسائل كثيرة تزاحمت في سياقات أخرى.. كُلّها احتشدت في أقل من آيتين:
(قالوا سلامًا، قال سلامٌ، فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط..)
تعليقات
إرسال تعليق