بقلم : محمد الصناعي
دع عنك النّقاد الذين يرون الإفك في قصيدة، فيقولون إيطاء وإقواء وليت الشّاعر قال الأتان بدل الحمار، وقل بعدي: لا يكون الانحطاط الشّعري في عصرٍ انقرض فيه الهجاء.
لا أتذوق الهجاء كباقي أغراض الشّعر- وأحمد الله على انقراضه- بل أعيفه ولا أشعر معه إلا شعور الكريم في باب: "بُكاء العرب من الهجاء"، وقد سهرتُ ليلةً أدور حول هذا العنوان قبل الشّروع فيما تحته، والذّاكرة تدور في رأسي مثل حجر الرّحى، ثائرة تستجلب كلّما يهجو الشّعر والشّعراء، فما أبقت لفظًا ولا معنى رمى الشّعر بخلّة إلا دارت عليه، فكأن القائل قد صدق حيث قال: للشّعر بابٌ مفتوح إلى الشّر، إذا دخل منه الخير أفسده، وكأن الجاحظ قد أحسن حيثما أورد هذا الباب في كتاب "الحيوان".
ولماذا لا تبكي العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، فوالله إن اللسان ليقطع ما لا يقطعه السّيف، وإن الكلام ليُبكي رجالًا ما كانت لتبكيهم المصائب لو أجتمعت طامة فوق أخرى.
بكى عبد الله بن جدعان من بيت لخداش بن زهير. وما زال يهجوه من غير أن يكون قد التقاه أو رآه، فهل ثمّ ظلم أغشم من هذا الظلم؟ وهل حسب الشّاعر شتمه للنّاس ينطوي على لهو الحديث الذي لا يؤاخذ به؟
قيل كان جرير ذات نهار جالسًا في مكان يملي قصيدة، فمرت به جنازة، فانقطع نفسه وتوقف عن الإنشاد وهب واقفًا مفجوعًا، كأنّما كان ينظر في جنازته وهي تُفضي إلى ما قدّم- وهل يُكب الناس على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم- فقال: شيبتني هذه الجنائز. فقيل له: ومالك تشتم النّاس؟ قال: أنا لا أبتدي ولكنّي أعتدي.
فما بال خداش ابتدى واعتدى، وهجا من غير رؤية ولا سابق معرفة، وعلام أتكأ في شعره؟ على الخيال، أم على القيل والقال؟
فما قيل له والنّاس ما أنفكّت تقول: لو كان رآه ورأى جماله وبهاءه ونبله والذي يقع في النفوس من تفضيله ومحبته ومن إجلاله والرقة عليه، لأمسك، أو أثنى.
كتب رجلٌ من بني مخزوم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه:
إني قد اشتريت لك غلامًا حبشيًا شاعرًا.
فكتب عثمان إلى المخزومي: لا حاجة بنا إليه، فاردده. إنّما حظّ أهل العبد الشّاعر منه إذا شبع أن يتشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم.
قبيحٌ هو الشّعر إذا كان العبد الوضيع شاعر، وما ظنّك بشيطان شعر يزاور غلامًا آبقا؟
فأي دافع يدفعه إلى الفضيلة وأي حائل يحيله عن الرّذيلة، فإنّما هو عبد عاري الأخلاق مقطوع النّسب، فبئس القصيدة. ولكن هل الشّاعرية في المرء الحرّ مأمونة الجانب؟
على قاعدة عثمان رضي الله عنه، جلّ شعراء الهجاء عبيد في شاعريتهم رغم أصولهم العربيّة وأنسابهم الشريفة، فهم والله ما حادوا عن هذه القاعدة الوضيعة، شاعرية حبشية حيوانيّة، انفعالها بين جوع البطن وشبعها.
في المديح، حكايات كثيرة وردت في باب دهاء الشّاعر وسخاء الأمير. شاعرٌ دخل على مولاه، أراق ماء وجهه فاغترف غرفة لا يجوع بعدها ولا يعرى، وعلى أثرها، تحاملتُ على الملوك والأمراء الذين كانوا يغدقون على قصيدة مديح أموالًا طائلة، ولكن في التاريخ الأدبي ما يقول إن هذا لم يكن طبعًا ملكيًا خاصًا ولا ترفًا يخصّ القصور، ولكنّه بدا شائعًا، على مستوى أشراف القبائل وحتى على البسطاء والخاملين من النّاس، فهذا شاعر وفد على رجل ليس بالملك ولا من أصحاب القصور والثراء، فقال له: لقد قلت في مدحك شعرًا، وحين همّ بإنشاده، ابتدره الرّجل قائلًا:
امسك عليك لسانك حتّى أنبيك بمالي كلّه، فتمدحني على حسبه، فذهب يعدد له ثروته الحيوانيّة، كم شاة وكم عنزة وكم دجاجة وكم بيضة.. فما أبقى صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كأن الشّاعر مندوب التّعداد السّكاني سيقرضه مالًا حسب ما يملكه من حيوان، لتحسين الإنتاج الحيواني وليس شعرًا سيجوع بعده ويعرى.
لماذا كلّ هذا؟ هل هو طبع عربي سائد، أن يهوى العربي المديح إلى درجة أن يدفع ماله كلّه مقابل قصيدة، فيهوي في جوع سحيق؟!
الجواب الذي أعتنقه: لا، ليس حبًّا في المديح ولكن كراهة في الهجاء. نعم من مدح، سيهجو، هذه سنّة المتكسّب من الشّعر، فإنّما جمع العربي ماله وعدّده ووضعه أمام الشّاعر قبل إنشاده وأراد أن يمدحه على حسبه، إنّما ذاك من فرط الخيفة، خيفة أن هو قصّر عنه في العطاء، فينقلب المديح هجاءً وطعنًا حيث لا يندمل الجرح، وما أكثر هذا الانقلاب الفاحش في تاريخ الشّعر، وربّما أنقلب المديح إلى الغزل، فالذين لم يحسنوا الهجاء، هجو بالتّشبيب، وهذا أحطّ الأبواب عتبة، وأعظمها فداحة وإيلامًا، فإنّما يطعن في عرض أو يقذف في محصنة، وليس بالغريب ولا النادر أن ينصرف الشّاعر عن دارٍ منع عنه العطاء أو قصّر فيه، ليحكي في قصيدة سافرة وقائع لم تحدث قط، ولكن انتقامًا لنفسه الدنيئة وانتصارًا لطبعه الليئم.
كان المنخل اليشكرى من ندماء الملك النعمان بن المنذر، ولأنّه أحبّ ابنته ( أخت عمرو بن هند) ولم يشأ النعمان تزويجها منه، خرج من بلاطه وقد استحال التزلّف هجاءً وغدا الهوى زنا، في قصيدته الشّهيرة "فتاة القصر" أو "فتاة الخِدر" لم يبقِ من الفحش شارد شعر إلا استجلبه.
لأنّي كنتُ أقرأ كلّ غرض من الشّعر في منأى، تحاملتُ على الذين ينفقون أموالهم في قصيدة مديح، أمّا حين قرأتُ المديح والهجاء وغيره في سيرة واحدة، بتُ متفهمًا لما كان منهم، وصارت الصّرة أهون من حجر ألقمت كلبًا عوى، وما حيلة المرء إن كان عرضه لا يُصان إلا بالدينار والدّهم؟ هل السّيف؟
السّيف إن وقع قبل وقوع اللسان، اعتدى، وإن وقع بعده، فما أجدى شيئًا. قيل للفزاري الذي قتل سالم بن دارة: محوت الشّاعر، وبقي الشّعر.
وأنا أقرأ تاريخ الشّعر والشّعراء، أرى وكأن الله ذرى الهجاء في الأرض على شكل الحطيئة ليكون آية للمبصرين، وإنّما سمّي الحطيئة لدنوه من الأرض- كما هو الهجاء أدنى إلى غياط الأرض- بلا ساقين يكاد يصير من الزاوحف، وبلا عنق، خلته على وحي الواصفين ليس إلا بطنًا تزحف ولسان خبيث يروغ في فم المعدة، يوقع به الظلم ويأكل منه السّحت، فهو الذي حين سُئل من أشعر النّاس؟ أخرج من فيه لسانًا دقيقًا كأنه رأس ثعبان وقال: "هذا إذا طمع".
ولأن الهجاء يحيق بأهله، هجا الحطيئة أباه وأمه ونفسه.. وهجا الموت حين احتضاره.
وربّما استثنيت من الهجاء ما كان سجالًا يشبه النّزال في المعركة بين شاعر وشاعر، رأس برأس، لا يتأذى من هجائهما غيرهما، لأنّ اللسان وإن كان خُلق لكلّ النّاس، فالشّعر موهبة خاصة- أو زيادة في الخلق- ليست لكلّ النّاس، ولذلك بكى عبد الله بن جدعان بكاء مرّا.
فليس من شيم الفارس النبيل أن يشهر سيفه على أعزل وإن كان يطلب ثأئره، فما أحرى بالشّاعر أن يكون فارسًا نبيلًا، فلا يشهر لسانه على أعزلٍ الشّعر، ومن كفر النّعم أن يخصّك الله بنعمة، فتسلّطها على عامة النّاس نقمةً.
تعليقات
إرسال تعليق