مسلكيات
قام بالتلخيص : أم هادي
جاء اسم الكتاب الذي يبدو غريبا ؛ جمعا لمسالك علم و إيمان انتخبها المؤلف بعد تأملات و تفحّصات دونها في أزمان مختلفة .
التعريف بالكاتب :
إبراهيم السكران باحث ومُفكِّر إسلامي، مهتمٌ بمنهج الفقه الإسلامي وبالمذاهب العقدية والفكرية، له العديد من المؤلفات والأبحاث والمقالات المنشورة وله عدد من الكتب المطبوعة.
تاريخ الميلاد : 4 أبريل 1976
أولا : مسالك العلم : [ المناهي ]
▪️المسلك الأول : جسر التعب :
اعلم أن معالي الأمور و الطموحات الكبرى في العلم و التعليم و التأليف و الإصلاح و التغيير و النهضة بالأمة ؛ لا تكشف وجهها لك ، حتى تمسح العرق عن جبينك بيد ترتعش من العناء ؛ فهذه حقيقة دل عليها الشرع و صرخت بها تجارب الحياة .
و مع ذلك فما زال في كثير من النفوس وهم مطمور أنه يمكن أن يبلغ المرء المجد و هو لم يكابد المشاق و يلعق الصبِر ، فما زالت الخطط فوق الصخور و الأرجل ناعمة ما حفيت بعد ؛ و سبب ذلك عامل نفسي يفسر كثيرا من فشل الطموحات و الاحلام : نقص الجدية ؛ فإنك تجد في عزم كثير من الناس شُعبا من الخير و الإنجاز و الإنتاج .. لكنها لم تتجاوز بعد مرحلة المشروع .
و صدق القائل :" لا يُستطاع العلم براحة الجسد "
و من المعينات على تحمل مشقة المعالي أن يستحضر في ذهنه الثمرة و حسن العاقبة فمن تلمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف
▪️المسلك الثاني : مأزق المترقِّب
المترقب هو المتفرج على ما يُحيط به من جدالات و نشاطات ثقافية و علمية لكنه يبقى واقفا كالمشلول من دون أن يحدد ما يريد أو مع من يكون أو إلى أين يمضي ...
مشتت الذهن أضاع مرحلته الذهبية مرحلة الشباب و قوة الملكات في " ترحيل المهام "
، و لم يفده التطور التكنولوجي إلا مزيدا من إضاعة الوقت و مخاشنة في القول و ترهل في قدراته الذهنية بسبب تعود عقله على التغريدات والوجبات السريعة .
و من أكبر عوامل هذه الحالة ما يمكن تسميته مشكلة " التقطع و الترحل في أنصاف المشروعات " فهو ما أن يبدأ في كتاب حتى ينتقل إلى غيره قبل أن يكمله ، و ما أن يدخل في علم حتى ينقطع عن دروسه و ترآه منتظما في دروس علم آخر .
▪️المسلك الثالث : إلباس العجز جبة الحكمة :
تجد كثيرا من الناس في لحظات الفتوة العلمية و اليفاعة الدعوية " فلكيّ الطموحات " يتحامل على نفسه أن يصافح النجوم و هو في أسفل الوادي ، فكلما سمع اسم علم هفت نفسه إليه ، و كلما نبا إليه خبر ثغري دعوي تخيل نفسه يطير إليه ، ثم لا تلبث ارتطامات الواقع و كدمات تعثر المشروعات أن تحفر أخاديد الإحباط في أحلامه ، و تتنوع إستجابات الناس لهذا السيناريو المتكرر في حياة الكثيرين ؛ و لكن أسوأ الاستجابات الشائعة ، استجابة يمكن تسميتها :( إلباس العجز جُبة الحكمة )
من أمثلة هذه الاستجابة :
✨أن حفظ العلم في الصدور من أعظم شعب العلم ، فإذا لم يستطع بعض طلبة العلم ذلك ، لم يعترف بالعجز و لا يجتهد في تحفيز إخوانه ممن يستطيع على ذلك ، بل تراه يخذل و يبتكر ألوان الملامز في المشتغلين بحفظ العلم و يخترع متضادات ليست أضدادا أصلا كتضديدهم بين الحفظ و الفهم ، و هل رأيت أحدا أصلا يقول :" أوصيك أن تحفظ و لا تفهم !" ، بل كل من يقول لك احفظ يقول لك افهم .
✨ من أعظم وسائل الدعوة اليوم التسلح بقدر أساس من الثقافة المعاصرة ، فإن العلم الشرعي غذاء ، و الثقافة المعاصرة وعاء ، و الوعاء الجميل يفتح شهية المتلقي ، و أكثر العلماء بعد السلف تأثيرا هم العلماء المثقفون كابن حزم و الغزالي ، و ابن تيمية .. بل إن المثقفين الإسلاميين كالمودودي و سيد قطب و الندوي كانوا أكثر تأثيرا من بعض فحول العلماء في عصرنا ، و الجمع بين العلم الشرعي و الثقافة المعاصرة عملة نادرة ، و أهل هذا الجمع هم المؤهلون للتأثير العميق في هذا العصر .
و الحقيقة أنك تجد بعض المشتغلين بالعلم الشرعي لاحظ أنه لا يمكنه الجمع بين العلم الشرعي و الثقافة المعاصرة ، فصار يزهد غيره من أهل العلم في ذلك .
تابع مسالك العلم :
الفوائد
▪️المسلك الرابع : فن القراءة الجردية :
القراءة الجردية : هي قراءة استكشافية سريعة مسبقة للكتاب ، بحيث يلتقط القارئ من خلالها : هيكل الكتاب و أسئلته الرئيسية ، و مظان المسائل فيه ، و التصورات العامة .
و يحدد من خلال هذا الجرد :
ما مدى احتياجه للكتاب ؟ ثم أين يقع موضع الحاجة منه ؟ حتى لا يتورط بصرف قراءة دقيقة تحليلية لكتاب قد يكتشف بعد الانتهاء منه أنه كتاب هش ، أو لا يتلاقى مع احتياجاته ، أو يكتشف أن المفيد منه هو الفصل الفلاني فقط .
و هذا النوع من القراءة كان أحد أهم أنماط الشائعة للقراءة لدى سلفنا ، و من اخبارهم في ذلك قراءة الفيروزآبادي لصحيح مسلم في ثلاثة مجالس ، و قراءة القسطلاني لصحيح البخاري في خمسة مجالس ، و قراءه الخطيب البغدادي على الإمام إسماعيل الحيري في ثلاثة مجالس كل مجلس يبدأ من وقت صلاة المغرب إلى صلاة الفجر ، و علق الذهبي على هذه الواقعة بقوله :" هذه و الله القراءة التي لم يُسمع قط بأسرع منها " ، و قد صدق الذهبي ، فإن صحيح البخاري في طبعته بالحروف العادية يقع في أربع مجلدات .
و هذا النمط من القراءة يفيد طالب العلم في جرد المطولات الإسلامية المتعددة ، التي لا يتسع العمر لقراءتها جميعا قراءة تفحصية .
▪️المسلك الخامس : التصنيف التحصيلي :
ظلت كثرة مؤلفات الإمام النووي و شهرتها في الأقطار في مقابل قصر عمره العلمي مثار تساؤل و تعجب بين العلماء ..
فالنووي ابتدأ في طلب العلم متأخرا نسبيا سنة ٦٤٩هـ و عمره ١٩ سنة و توفي - رحمه الله - سنة ٦٧٦هـ و عمره ٤٥ سنة ؟
ظهرت أطروحات متعددة في تعليل ذلك ، لكن أطرف و أعجب هذه التفسيرات ، تفسير أشار إليه العلامة الإسنوي بأن الإمام النووي ( جعل تصنيفه تحصيلا ، و تحصيله تصنيفا ) و هو تعبير يمهد الطريق لنحت مصطلح ( التصنيف التحصيلي ) .
فقد جعل الإمام النووي تأليفه وسيلة للتحصيل و طلب العلم ، و جعل طلبه للعلم في صيغة مؤلفات فورا ، و قد كشف -رحمه الله - أن عنايته المبكرة بالتأليف كانت لأهداف التعلم الذاتي و وصفه بأنه بذلك ( يطلع على حقائق العلم و دقائقه ، و يثبت معه ، لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش و المطالعة و التحقيق و المراجعة و الاطلاع على مختلف كلام الأئمة متفقه ، و واضحه من مشكله ، و صحيحه من ضعيفه ، و جزله من ركيكه ، و ما لا اعتراض عليه من غيره ، و به يتصف المحقق بصفة المجتهد ) .
و مثل التصنيف يندرج كذلك سائر أنواع الإنتاج و العطاء العلمي في كونها وسائل للتعليم : كـ تدريس العلم ، فهو وسيلة من وسائل التعلم و قد سمى الخليل بن أحمد التعليم دراسة فقال :( اجعل تعليمك دراسة)
و القضاء ، و الفتيا ، و الخطابة ، و نحوها ، فكلها وسائل تعلّم للشخص ذاته أولا .
ثانيا : مسالك الإيمان
▪️المسلك الأول : لقاء العظيمين :
لا شك أن محمد و إبراهيم الخليلين - صلى الله عليهما و آلهما و سلم - هما أعظم شخصيتين في تاريخ البشرية ، حصل اللقاء بينهما لما أسري برسول الله ثم عُرج به إلى السماء السابعة ، و الموضوع الذي تركز الحديث عنه في ذلك اللقاء رواه عدد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرئ أمتك مني السلام ، و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، و أنها قيعان ، و أن غرسها : سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله، و الله أكبر )
تكمن أهمية هذه الرسالة في أنها رسالة من أبونا إبراهيم عليه السلام ، الذي ارتحل إلى ربه و هو الآن أخبر ما يكون بأنفع شيء لمن لم يمت بعد ألا و هو ( ذكر الله ) ، فهي وصية قادمة من رجل سبقنا في الرحلة إلى المستقبل الأبدي ، فكأنها وصية قادمة من المستقبل الذي سنؤول إليه ، و هي وصية تبني لك موقعا في الجنة التي هي قيعان تنتظر أن يغرس فيها المؤمن أشجاره بقوله : ( سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر )
فهل تتوقع لو اجتمع اليوم اثنان من المفكرين العرب أن يكون اجتماعهم معنيا بقضية ( ذكر الله ) كما اهتم بها أعظم رجلين في تاريخ البشرية في اجتماعهما في السماء السابعة ؟!
لا أظن ذلك .. و يبهجني أن أكون مخطئًا.
النهضة و التقدم و التطور و الرقي في ميزان الأنبياء تختلف كثيرا عن الموازين المادية المعاصرة .
▪️المسلك الثاني : صفاء الأنبجانية :
من أعجب مشاهد المصلين الخاشعين ما يغزو النفوس من الشعور بالهالة الإيمانية التي تطوقهم ، حتى يعتري الخجل من بجانبهم من الحديث و رفع الصوت ، كأنما ينشر الخشوع في المكان رسالة استنصات ...
و معنى الخشوع في الصلاة الذي ورد في قوله تعالى :" و الذين هم في صلاتهم خاشعون " فسره ابن تيمية بأنه يتضمن السكينة و التواضع جميعا .
هذه هي الحالة التي يريدها الله منا في الصلاة : أن نكون في سكون فلا تطوف أطرافنا و تتحرك و نعبث ، و أن نخفض رؤوسنا و نطرق متذللين لمن نقف بين يديه ، و هذان الوصفان هما من أجل معاني الخشوع الذي عظّمه القرآن و ربط الفلاح به ، و جاء النص عليهما في الصلاة في الأحاديث الصحيحة .
و قد كان أهل العلم إذا طرقوا موضوع الخشوع اهتموا بذكر صلاة " ابن الزبير " فمن ذلك : " كنت أمر بابن الزبير ، و هو يصلي خلف المقام ، كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك "
و قد كانت صلاته رضي الله عنه هي أحد اللحظات في مسلسل الإخبات و الخشوع ، يجلب لك الإمام أحمد ذلك المسلسل بقوله في مسنده :( حدثنا عبد الرزاق قال : أهل مكة يقولون :" أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء ، و أخذها عطاء من ابن الزبير ، و أخذها ابن الزبير من أبي بكر ، و أخذها أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم " .
و شواهد السكون والخشوع و الإطراق في صلاة رسول الله كثيرة جدا ، من هذه المشاهد مشهد " الأنبجانية " فقد كان " أبوجهم " أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم " خميصة " كساء من لباس الأشراف ، و يكون فيها أعلام ، و هي خطوط في طرفي اللباس ، و تكون غالبا بلون مغاير ، فلما لبسه النبي صلى الله عليه وسلم و كبّر للصلاة نظر في الأعلام التي في طرفي الكساء ، فلما سلم ، جاء متضايقا إلى أهله و قال :" اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم و أتوني بأنبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني عن صلاتي "
" الأنبجانية " كساء ليس فيه أعلام .
فانظر كمال اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصفاء باله و فراغ ذهنه أثناء الصلاة ، حتى أنه نظر مجرد " نظرة " إلى خطوط الزينة في ثوبه فأخرج الكساء عن ملكه و رده إلى صاحبه .
و بجرد لأحاديث الصلاة في الصحيحين و جدت أن كثيرا من الأحكام الفروعية التي تضمنتها الأحاديث النبوية جاءت مراعية لجناب " الخشوع " .
ففي بناء المسجد نهى الشرع عن زخرفتها لأنها تشغل المصلين .
فإذا أقيم المسجد على الوصف النبوي المتواضع و صدح المصلي بالذهاب ، و لكن حضر الطعام ، فانشغل القلب بذلك ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُقدم الطعام على الصلاة، و هكذا في كل المسابقات وجهنا للتلخص منها قبل أن نمضي الصلاة حتى لا يخدش مقصود الصلاة الأعظم و هو الخشوع ...و نظائر هذا كثير حتى كادت كل دروب أحاديث الصلاة أن تنتهي بنا إلى محراب الخشوع الذي جذره مرتبط بقضية اعتقادية و هي درجة العبد من منزلة الإحسان .
▪️المسلك الثالث : جناح الذل :
ثمة كلمة في كتاب الله مرت بي و لأول وهلة سمعتها و هي تحمل سؤالا في نفسها ..
و هي استعارة قرآنية خلبت اهتمامي و هي قوله تعالى :" واخفض لهما جناح الذل "
فظل سؤال يقرع ذهني بصورة مستمرة :
لماذا أضاف الله هذا ( الجناح ) الحسي المعروف ، إلى ( الذل ) الذي هو سلوك أخلاقي و جزء منه شعوري معنوي ؟
من تتبع كتب التفسير و اللغة نجد أن العلماء استخلصوا أربع دلالات لذلك المعنى :
١- هو خفض جناح الذل كما يخفض الطير جناحه عند الهبوط ، و هو كناية عن التواضع لهما .
٢- هو خفض جناح الذل كما يسبل الطير جناحه لفراخه حنوا عليهم .
٣- أنه يخفض جناحه لهما كما يخفض الطير جناحه من الوهن .
٤- أن يطرق استسلاما بين يديهما كما يخفض الطائر جناحيه استسلاما أمام الجوارح .
و هناك معنى آخر تكشف لي في هذه الآية و هي أن كلمة " الذُّل" في هذه الآية أنزلها الله بقراءتين : بضم الذال " الذُّل " و بكسر الذال " الذِّل " : فــ " الذُّل " بضم الذال كما قال ابن جني للإنسان و هو ضد العز ، و " الذِّل " بكسر الذال في الدابة ضد الصعوبة أي أنها دابة منقادة مستكينة مطاوعة لراعيها ؛ فأراد الله بستعارة ذلك للإنسان أن نكون في التذلل للوالدين كما تكون الدابة الذلول مع صاحبها .
من أعجب القصص التي مرت بي للبر أن التابعي الجليل ميمون بن مهران قال : خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة ، فمررت بجدول ، فلم يستطيع الشيخ يتخطاه ، فاضطجعت له ، فمر على ظهري .
فانظر إلى هذه الصورة الرفيعة من خفض جناح الذل ، فحين جاء الأب الذي أرعدت السنون مشيته فما عاد يقوى أن يعبر جدول ماء .. تحول الابن إلى جسر يغمر نفسه في الطمي كي يخطو والده فوقه بقدميه .
عليك رحمات ربي يا عمرو بن ميمون ..أكنت محظوظا أن لم تر شابا يستكثر أن يدفع عربة والده المقعد تحت سياط الظهيرة أمام مبنى الجوازات ؟! أكانت فطرتك ندية فلم يعكرها خبر شاب يستثقل مرافقة والده في مستشفى ..؟!
من أغبى الأوهام المنتشرة اليوم توهم أن " بر الوالدين " مربوط بكمية الخدمات الحسية المادية ، ...و احرقتاه من هذا الوهم .. يبدو أن عصر الماديات في أحسن أحواله لا ينتج إلا تدينا ماديا أيضا ..!
لا ... بر الوالدين ليس مقصورا على الخدمات المادية ، بل هو " خفض جناح الذل " قبل كل شيء ، وانظر إلى الحافظ عبد الله بن عون ، الذي وقف على دقائق تجليات " واخفض لهما جناح الذل " بحساسية شريفة ، حيث لاحظ رحمه الله أن مما يدخل في معنى ذلك " مراعاة مستوى الصوت " ففي ترجمته : أنه نادته أمه فأجابها ، فعلا صوته صوتها ؛ فأعتق رقبتين "
و اغوثاه من شاب يصرخ من غرفته في الدور الثاني على والدته مستبطئا غداءه ! و يتذرع بأنه مرهق و متعب !
و خذ مثالا آخر هو أحد أنواع البلاغة البشرية التي يتحدث عنها قول الله تعالى :" و اخفض لهما جناح الذل " التابعي الجليل محمد بن سيرين الذي إذا كان عند أمه ، و رآه رجل لا يعرفه ، ظن أن به مرضا من خفضه كلامه عندها .
و من تجليات "خفض جناح الذل" كمال الأدب في طريقة النظر للوالدين وخضوع العيون للعيون فكما يكون العقوق بالقول و الفعل ، يكون بمجرد اللّحظ المُشعِر بالغضب ؛ لأن النظر شزرا ليس إلا دخانا خارجيا للهيب استعلاء يمور في الباطن .
فهذه المشاهد المبهرة لأئمة السلف في فهم دقائق الآفاق الدلالية لخفض جناح الذل مرتبطة ارتباطا مباشرا بعمق علم السلف بمنزلة العبادات التي يحبها الله .
و بركات و ثمرات بر الوالدين لا تقتصر على أمور الدين بل إن آثارها تظهر في الدنيا فهذا الحسن بن هارون الوراق اعتزم الخروج إلى" سر من رأى " للتجارة في أيام المتوكل فرفض أباه ذلك ، و قال : إن خرجت لم أكلمك أبدا ، قال حسن : فلم أخرج و أطعته ، فجلست ، فرزقني الله بعد ذلك ، فأكثر َ فله الحمد "
فانظر كيف أثمر خفض جناح الذل للوالدين في قرار تجاري البركة في الرزق ، فوجد في طاعة والده بركة في ماله ، كان سيفقدها لو صعّر خدّه و شمخ برأيه الشخصي ؛ فإظهار الاحترام لرأي الأبوين ، و إجلالهما ، و إظهار الاستفادة من خبرتهما ، و الصدور عن توجيههما : هي جنة البر التي من لم يدخلها لن يعرف ماذا تعني هذه الاستعارة القرآنية " واخفض لهما جناح الذل "
▪️المسلك الرابع : المجرات سلالم اليقين :
في منتصف القرن العشرين أطبقت شهرة عالم الفلك و الفيزياء الانجليزي " جيمس جينز " ، الذي التقاه عالم الرياضيات الهندي عناية الله المشرقي ، ذلك العالم الذي ولع بالرياضيات و أنهى الماجستير فيها و عمره ١٩ سنة ، ثم سافر إلى بريطانيا و درس في جامعة كامبردج خمس سنوات ثم عاد بعدها إلى الهند ، و هو صاحب كتاب التذكرة الذي حاول فيه تفسير القرآن على ضوء مكتشفات العلوم الطبيعية ، و لم تكن الصورة مشرقة عنه إلى هذا الحد ، فقد كان لدى عناية الله بعض التصورات الخاطئة حول السنة و مفهوم اختلاف النبوات في التشريع ..
ما يهمنا هنا هو ذلك اللقاء الذي حصل بين هاتين الشخصيتين : العالم الفيزيائي / الفلكي الانجليزي ( جيمس جينز ) ، و عالم الرياضيات الهندي ( عناية الله المشرقي ) و ذلك خلال تواجده للدراسة في جامعة كامبردج : ففي يوم ممطر خرج عناية الله من بيته فوجد السير جيمس جينز ذاهبا إلى الكنيسة ، و الإنجيل و الشمسية تحت إبطه ، فدنا منه عناية الله و سأله سؤالين : لماذا لا يضع الشمسية على رأسه و السماء تمطر ؟
و ما الذي يدفع رجل ذائع الصيت في العالم مثلك ؛ أن يتوجه إلى الكنيسة ؟
ففتح السير جيمس شمسيته إجابة للسؤال الأول ، و دعاه لتناول الشاي معه في المساء ليجيبه عن السؤال الثاني ، و عندما جاءه في المساء سأله عن سؤاله ، ثم و دون أن ينتظر ردا بدأ السير جيمس يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية ،و نظامها المدهش ، و أبعادها و فواصلها اللامتناهية ، و طرقها ، و مداراتها ، وجاذبيتها ، و طوفان أنوارها المذهلة ، حتى شعر عناية الله بقلبه يهتز بهيبة الله و جلاله .
و أما السير جيمس فكان شعر رأسه قائما ، و الدموع تنهمر من عينيه ، و يداه ترتعدان من خشية الله ، و توقف فجأة و قال : يا عناية الله ! عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله ، يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي ، و عندما أركع أمام الله و أقول : " إنك لعظيم !" أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء ، و أشعر بسكون و سعادة عظيمين ، و أحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة ، أفهمت يا عناية الله خان ، لماذا أذهب إلى الكنيسة ؟
رد عناية الله بأن قال له : لقد تأثرت جدا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي ، و تذكرت بهذه المناسبة آية من كتابي المقدس تقول :" و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود ° و من الناس و الدواب و الأنعام مختلف ألوانها كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء "
فصرخ السير جيمس قائلا : ماذا قلت ؟ " إنما يخشى الله من عباده العلماء "؟ مدهش ! و غريب و عجيب جدا !! إن الأمر الذي كشفتُ عنه بعد دراسة و مشاهدة استمرت خمسين سنة ، من أنبأ محمدا به ؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة ؟ لو كان الأمر كذلك ؛ فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله .
فهذا نموذج لتأثر العلماء التجريبين بالفلك كمعراج لليقين ، و لو تأملنا سير الفلاسفة فسنجد نموذجا آخر لهذا التأثر ، فهذا كانط رمز الفلسفة الألمانية كتب في خاتمة أحد كتبه النقدية الشهيرة :" شيئان اثنان يملآن العقل بإعجاب و مهابة متجددين و متزايدين ، كلما كررنا النظر فيهما : الأفلاك المرصعة بالنجوم فوقنا ،و القانون الأخلاقي في داخلنا " .
و لنرتقي إلى طبقة أرفع من طبقة أهل العلوم الطبيعية و الفلسفية ، إلى طبقة سادات العلم و الإيمان ، نجد نموذجا مضيئا هو ابن تيمية حيث ينقل البزار صفة عادته بعد صلاة الفجر مباشرة ، فيقول :" ثم يشرع في الذكر ، و كان قد عُرِفت عادته لا يُكلِّمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر ، فلا يزال في الذكر يُسمع نفسه ، و ربما يسمع ذكره من إلى جانبه ، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء ، هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس و يزول وقت النهي عن الصلاة "
و من أعظم النماذج في التعامل مع الفلك كمعراج لليقين ، و التي تفوق ما ذكرناه ، موقف خليل الله
إبراهيم صلى الله عليه وسلم و ما جرى له من أحوال مع الأجرام الفلكية .. و قد نص الله في كتابه أنه أرى إبراهيم " ملكوت السموات و الأرض " لتحقيق نتيجة واضحة و هي قوله " و ليكون من الموقنين "
فالنظر في ملكوت السموات و الارض سلالم يصعد بها القلب إلى مدارات الجزم و خلع الارتيابات .
و كلما أعاد المرء التدبر و التمعن في العبارة الأخيرة "و ليكون من الموقنين " انفتحت له أبواب عظيمة إلى مقام الإحسان ، و هو أرفع مقامات الدين ..
فإذا رأيت النجوم تتدلى بحبال ضيائها إليك فانتهز الفرصة و تسلق بها إلى قمم اليقين .
تعليقات
إرسال تعليق