على هامش الأدب
بقلم :محمد الصناعي
في بعض الطّريق، ما أن تقدّمت بغلة سنان النميري على فرس الأمير عمر الفزاري خطوة أو كادت، حتّى قال له: "غضّ من عنان بغلتك يا نميري!".
بالطّبع، إذا نظرت في قول الفزاري رأيت لفظًا رمى معنًى قريبًا طارئًا ( على رسلك.. حبة حبة)، لكنّه أصاب معنًى بعيد المرمى والتّاريخ.
قيل البلاغة أن تجيب فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ، والبلاغة ضروب، وكلام الفزاري انتهازي ماكر زامن حدثًا، بحديث، فلا أخطأ ولا أبطأ، وهذا ينطوي على "بلاغة التّعريض"، والتّعريض كلام أخفى من الكناية- وأشهى والله- يصيب المعنى بلا تصريح..
"غض من عنان بغلتك يا نميري"، يلمّح الفزاري إلى قول جرير:
"فغض الطرف إنّك من نميرٍ
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا"
ردّ النميري على فوره قائلًا: "إنّها مكتوبة، أصلح الله الأمير"!
وهل هذا أيضًا ردٌ مبطّن؟
إذا كان النميري قد فهم المعنى الباطن من حديث الفزاري بهذه السّرعة، فقد أمتلك "بلاغة التأويل".. وهذه وحدها نعمة جزيلة حتّى وإن أطرق خجلًا ولم يُحِر جوابًا..
فاصل قصير ونواصل..
《ذات يوم صادفت ناقدًا، يقول عن بيت من الشّعر: "هُراء بلا معنى"، وهذه عبارة لا أقولها حتّى على (شعر أحمد عضيمان)، ببساطة، لأن التّحدّي عندي لم يكن تفريغ النّص من معانيه، ولكن استخراج معنى من لفظٍ يراه النّاس هُراء، وليس ثمّ لفظ لا يحمل معنى، أجتمع مع غيره أو انفرد، والله عزّ وجل ابتدأ سورًا عظيمة بحروف مقطّعة، فكانت آيات لا يمكنك تجاوزها حين القراءة أو القول عنها بلا معنى عند التّفسير.
النّافع في عبارة النّاقم أنّها استفزّت فيَّ بلاغة النّثر، فنثرت كلامًا كثيرًا لا زال يثناثر حتّى السّاعة، لكنّي قبل ذلك ردّيت عليه في ذات اللحظة وانصرفت:
لابد لبصرك أن يكون حادًا حتّى ترى مغرز كلّ سهم، فربّما زعمت أن الرّامي يطلق سهامه في الهواء، ولكن في الواقع، نظرك قصير وأهدافه بعيدة المدى.
وإنّما كنتُ أرمي إلى بلاغة التّأويل التي يفتقدها، هذه البلاغة المهجورة هي بلاغة النّاقد التي تمكّنه- إلى حدٍ ما- مجاراة بلاغة الشّعر عند السّيد الشّاعر..》
عُدنا..
لكنّه- أي النميري- فهم التّلميح قبل أن ينتهي إلى سمعه ذيل العبارة، وأجاب بلا وقت للاستفهام ولا للاستحضار ولا للتحضير، ردّ التّعريض بالتّعريض، كما لو أن الفزاري عطس، فشمّته النميري قبل أن يحمد الله!
قسمًا لو أن أحدهم صدّ سهم بسهم، ما كان عندي أعجب ولا أمتع من هذا التراشق اللفظي الخاطف!
"إنها مكتوبة أصلح الله الأمير"، يلمّح النميري إلى قول سالم بن دارة:
"لا تأمنن فزاريًا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيارِ"
فضحك الفزاري وقال: قاتلك الله، ما قصدت هذا، قال النميري: ولا أنا..
يا سبحان الله! لسانٌ لا يُحصر، وعقلٌ لا يُحار، وذهنٌ لا يرتجّ، وبديهة لا تغيب، وذاكرة لا تخون.. يا لفطنة عربية انقرضت!
أمّة أضاعت ما كانت تمتلكه بالفطرة، لا أظنّها تستوعب محداث العصر، ناهيك عن مواكبته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق