لماذا نكتب؟ غاية الكتابة بين الشهرة والرسالة

كاتب يجلس أمام أوراق وقلم يفكر في معنى الكتابة الحقيقية

الكتابة ليست مهنةً فحسب، بل رسالةُ وعيٍ تُورّث النور لمن يأتي بعدنا.

✍️ بقلم: صدام الفاتش

لماذا نكتب؟ سؤالٌ يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في طيّاته أسرارًا كثيرةً عن دوافع الإنسان وأحلامه وموقفه من الحياة. فبين من يكتب ليُسمع صوته، ومن يكتب ليبقى، ومن يكتب ليُغيّر — تتسع المسافات وتتعدد النوايا.

كثيرون يكتبون وهم لا يرون في الكتابة سوى سلّمٍ إلى الشهرة، أو وسيلةٍ لكسب المال. تجد أقلامهم تنسج الحكايات الخيالية والأساطير الفارغة، وتُغرق السطور في الزخارف اللفظية بلا روحٍ ولا فكرة. يكتبون ليُصفّق لهم الناس، لا ليُفكّروا معهم. وهكذا تمتلئ الرفوفُ بكتبٍ تلمع أغلفتُها، لكنها خاوية المضمون.

وفي المقابل، قِلّةٌ نادرةٌ من الكتّاب تكتب لأنها تؤمن بأن الكلمة قادرة على أن تُغيّر العالم، وأن الحرف يمكن أن يكون شعلةً تُضيء طريقًا مظلمًا. هؤلاء لا يكتبون للضجيج، بل للضمير. لا يسعون لزيادة المتابعين، بل لإيقاظ العقول. يخطّون أفكارهم كما يغرسُ الزارعُ شتلاتِ الخير في أرضٍ عطشى.

يكتبون لأنهم يرون في اللغة مسؤولية، وفي البيانِ أمانة. أقلامهم لا تُزين الباطل، ولا تُخفي الحقّ، بل تنحاز للإنسان وكرامته. يواجهون بفكرهم جيوش الجهل، ويحملون في قلوبهم حلمًا بأن يرى العالم وجهه الحقيقي، لا صورته المزيفة.

الكتابة في حقيقتها ليست ترفًا ولا تسلية، بل جهادٌ بالقلم ضد العدم، ومقاومةٌ بالصوت ضد الصمت. إنها بحثٌ دائم عن المعنى في عالمٍ يتكاثر فيه الزيف، وتذكيرٌ بأن الكلمة قد تكون حياةً لمن يسمعها، أو نجاةً لمن يقرؤها في لحظةِ ضعف.

وما أجمل ما قيل: «لا تكتب بخطك غير شيء يسرك يوم القيامة أن تراه.» — وصيةٌ تختصر فلسفة الكتابة كلّها. فالحروف التي نتركها على الورق تشهد علينا قبل أن تشهد لنا، والكلمات التي نرسلها في الهواء قد تكون دواءً أو دمارًا.

إن الكاتب الحقيقي هو من يتطهر قبل أن يكتب، يراجع نواياه قبل سطوره، ويسأل نفسه: هل أكتب لأزيد الضجيج، أم لأوقظ الضمير؟ هل أبحث عن إعجاب الناس، أم عن رضا الله؟ وهل أزرع في قرّائي وعياً، أم أسقيهم وهماً؟

الكتابة مسؤولية كبرى، وكل كلمةٍ تخرجُ منّا هي عهدٌ مع القارئ ومع الحياة. لذلك، اكتب لتُضيف معنى، لا لِتملأ فراغاً. اكتب لتُداوي، لا لِتجرح. اجعل من قلمك جسرًا إلى الخير، لا سلّمًا إلى الشهرة. فالكلمة الصادقة لا تموت، وإن طال الزمن، والكلمة الزائفة لا تعيش، وإن تزيّنت بالحروف.

اكتب لأنك ترى العالم كما يجب أن يكون، لا كما يُراد له أن يُرى. واكتب لأنك تؤمن بأن الإصلاح يبدأ من فكرةٍ تُكتب بإخلاصٍ، لا من ضوضاءٍ تُقال بعشوائيةٍ. وحين تُمسك قلمك، تذكّر أنك تمسك مصيرًا صغيرًا من الضوء في زمنٍ تغمره الظلال.

فلتكن كلماتك بذورًا للخير لا سهامًا في صدور الغافلين، وكن من الذين إذا كتبوا أحيَوا القلوب، لا من الذين إذا كتبوا أماتوا المعاني.

تعليقات