القائمة الرئيسية

الصفحات

اقتباسات ملهمة من رواية تلك العتمة الباهرة







المؤلف: طاهر بنجلون.


كان الليل قد كف عن أن يكون هو الليل، فما عاد له نهار ولا نجوم ولا قمر ولا سماء. كلا، نحن، الليل. وإلى الأبد ليلية أجسادنا وأنفاسنا وخفق قلوبنا وتلمسات أيدينا، متنقلة من جدار إلى آخر دونما جهد تبذله.

الصفحة: ( 8 ).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في الواقع، كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترا ونصف المتر، أما سقفها فوطيء جدا يتراوح ارتفاعه بين مائة وخمسين ومائة وستين سنتمترا.

الصفحة: ( 9 ).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


"لقد أدركت على الفور أنه لم يعد لنا أي خيار آخر. فعلينا أن نتخلى عن مساعينا اليومية البسيطة، أن ننساها، وأن نقول في سرنا: "الحياة أصبحت وراءنا"، أو:" لقد انتزعنا من الحياة "وألا نندم على شيء، وألا نشكو،وألا نرجو أقل الرجاء."  

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(21).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان الليل ماثلاً ليذكرنا بهشاشتنا ..

أن نقاوم ما أمكننا. ألا نسقط . أن نوصد كل الأبواب. أن نتصلب . أن نفرغ أذهاننا من الماضي.أن ننظفها .ألاّ نترك أثراً منه في الرأس.ألاّ ننظر إلى الوراء . وأن نتعلم ألا نتذكر ."

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌الصفحة :( 26).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



كان البرد عدوّنا اللدود، يهاجمنا بثبات فيصيبنا إما بالرعدة وإما بالإسهال. ولا مجال لتفسير ذلك. في العادة البرد لا يسبب إسهالاً، لكنَّ الخوف هو الذي يسببه.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(41).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


قلنا : وداعاً، إلى اللقاء ، إلى لقاءٍ قريب ! 

سوف نلتقي هناك، وسوف نحتكم إلى الله ورحمته، فإنا لله وإنا إليه راجعون" لم يكن لدي أدنى شك حول هذه المسألة. إذ لم أكن ملكاً لا للملك ولا لقائد المقبرة الجوفية ، ولا للحرس المدججين بالسلاح ، لست لغير الله. هو وحده من ستلاقيه روحي فيقاضيها.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(48).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كنا نمتلك في ذلك الجحيم النهارات والليالي، كنا نهارات جوع وليالي أرق، وفي الأغلب لم نكن شيئا آخر، لذا فالذين غادرونا كانوا قد أساؤوا إلى نهاراتهم ولياليهم، وما كانوا يرعون فيها وهماً دنيئاً، أو أن ما أفضى بهم إلى الإنتحار لم يكن بالذات إلا سُم الأوهام.  فأدركتُ أن الكرامة هي أيضاً، الكف عن التعاطي مع أي أمل، لكي ننجوا ينبغي أن نكفَّ عن الرجاء، وميزة هذا الاقتناع، أنه لا يشبه شيئا مما يقتنع به مَن رموا بنا في تلك الحفرة.  لم يكن مرهونا بخطتهم بل فقط بإرادتنا: رفض  أن نكون مرهونين لعادة الأمل التالفة تلك.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :  (60_61).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إلهي، لقد تعلمت منك أن الجسد الصحيح ينبئنا بجمال الكون . إنه صدى من يفتن، من يبلع الحياة والنور. إنه نور؛ نور في الحياة. ولما استبعد من الحياة، وعزل وسجن في حفرة معتمة، ما عاد صدى لأي شيء، ولا انعكاس يحل فيه. بمشيئتك، لن أكون مطفأً، ما بقيت.

الصفحة : (65 ). 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لابدَّ من أن هُناك سماء ضيقة فوق الكوة ذات الغطاء المُنَخّْل، تلك الفتحة غير المباشرة التي يتسرب عبرها الهواء لا  النور. سماء أتخيَّل وجودها، أملأها بالكلمات والصور. كنت أُنَقِّل النجوم أُربك ترتيبها كي أستبدلها بقبس من ذلك النور الحبيس في صدري، الذي كنت أشعر به. كيف يُشعَرُ بالضوء ؟ عندما يداعب ضياءٌ لدني بشرتي ويدفئها، أدرك أنني حظيت بزيارته. وما كنت أفلح في استقبائه. عوضا عن ذلك يسود صمت.  كان يطبق فجأة على أبصارنا الكفيفة . يكتنفنا ويحطُّ مثل يدٍ حانية على أكتافنا. حتي حين يكون ثقيلاً، ومازال مُشبعاً بالغبار ، يريحني ولا يثقل عليَّ. ينبغي القول إنه كانت هناك أنماط من الصمت.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :( 66).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أما الصمت الأشد قسوة، والأشد وطأة فكان صمت النور. صمت نافذا ومتعدد. كان هناك صمت الليل،وهو دائما إياه لايتغير، ثم هناك لحظات صمت النور.غيابه المتمادي  الذي لاينتهي.

الصفحة:( ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌67).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


"صمت السماء الداكنة التي تكاد لا تهدينا ولو علامة واحدة .

صمت الغياب، غياب الحياة الباهر ."

الصفحة( 67).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


يمضي الوقت، كان صوته يزداد خفوتا، يتمتم، يغمغم فتسمع صريف أسنانه، ثم يطلق تنهيدات عميقة. كانت أطباق النشويات تتكدس في زنزانته، وتتعفن . كف عن الاغتسال. وبأظافره التي استطالت راح يخدش الجدار. خارت قواه ووهن صوته. كان مستسلما للموت لأنه توقف عن الأكل منذ مدة، كما توقف عن إطعام أمه. استغرق الأمر بضعة أسابيع قبل أن يموت. 

الصفحة:(76).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ومن كنف تلك العتمات يتبدى لي الحق بنوره الساطع. لا أكون شيئا. حبة حنطة في مطحنة هائلة تدور على مهل، وتسحقنا واحداً تلو الآخر. فتعاودني ذكرى سورة النور وأسْمَعُني مردداً الآية «(… ) ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَاهَا وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ »

   تأملت وأدركت أن حجباً متتالية تسّاقط إلى أن تصير العتمات أقل إعتاماً، إِلى أن أبصر قبساً من نور. 

ربما كنت أختلق ذلك، ربما أتخيله. لكني أقنع نفسي بأني أبصره. كان الصمت درباً، سبيلاً أسلكه لكي أرجع إِلى ذاتي. كنت الصمت. تنفسي وخفق قلبي صارا صمتاً.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(80).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كنت قد أصبحت عاجزاً عن الكلام، عاجزاً عن النهوض، في حال غير طبيعيّة. أصوات تتناهى إلى سمعي لكني لا أدرك شيئا مما يجري من حولي وخلال بضعة أيام ، أذهلني أني فقدت كل إحساس بالواقع فما عدت أعلم لا أين أنا ولا ماذا أفعل في تلك الحفرة، كنت أهذي والحمى تشتد. 

الصفحة:(95).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان متشبثا بالكلمات التي كانت له بمثابة الرجاء الأخير . كان غالبا ما يؤكد أنه صديقي وأنه يأمل أن يغادر  ذات يوم ذلك المكان لكي يتاح له أن يحيا هذه الصداقة في الهواء الطلق ."

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(95).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


"ويقيناً :أنه مهما بلغ إيمان الرفاق الذين قضوا ألما وحزناً، فإنهم يستحقون الجنة."

الصفحة (97).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إني أُصلي كثيراً، أُصلَّي إلى اللّه بغيةَ أن أصرف نفسي عن العالم. ولكن، كما تعلم، العالم يُختزل بحفنةِ ضئيلة جدا من الأشياء، إني لا أُناضل ضد العالم بل ضد المشاعر التي ترودُ جوارنا لكي تجذبنا إلى بئر الكراهية. إني لا أُصلي من أجلي، وليس رجاءً بشيءٍ...بل دفعاً لشقاءِ البقاء. أصلي دفعاً للقنوط الذي يُهلكنا ،هكذا يا عزيزي رشدي، تكون الصَّلاة هي المجانية المطلقة.

الصفحة:(103--104).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أنت وحدك القادر على إخراج نفسك من النفق. ولكي تفعل، تعوزك إرادة ضارية، وطاقة ذهنيّة أقوى من الحلم، وأسطع ضياء من الصلاة. إني لا أسكن الشجرة بل أسكن الأفكار التي تؤلم، التي تمزّق جلدي ومع ذلك ترتقي بي إلى ما فوق الجبال والغابات الوسنة. إني راحل. لقد نأيت لتوي. إني أعيدك إلى ذات نفسك، إلى عزلتك وإلى رشدك ! 

الصفحة :(111--112).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


رجائي ألا أمتلك شيئا، ألا أقتني شيئا، أن أتخفف من كل شيء، سوى من جلباب يكسو جسمي، فأكون على أهبة الاستعداد، مهيأ للتخلي عن كل شيء، مهيأ للرحيل. ما من شيء يصرف المرء عن  التفكير في الموت أكثر من التخلي المطلق، ولكن إذا كان موتي لم يعد شاغلي، فإن موت الآخرين يمسني في العمق.

الصفحة:(124).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


« اليوم سوف أموت، أو ربما غدا، لست أدري، لن تتلقى أمي لا برقية من تزمامارت ولا أحر التعازي، لكن هذا لايعني شيئا، فربما كان ذلك أمس. »

الصفحة: (134).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في شخصية كل إنسان يكمن قَدرٌ من السوقية. وكانت شخصية عشّار مثلاً على السوقية التي تفوق حدّ الاحتمال. كائن يُقيمُ على حافة الطبيعة الحيوانية، كأنه حيوان يقلد طبائع البشر. وعشّار لم يكن سوقياً وحسب، بل كان لئيماً أيضاً. كان يقززني. ولكني في ما بعد تداركت مشاعري: فلم يكن عشار يستحق أن أبدي حياله أية مشاعر. لذا اعتدت أن أكون لامبالياً حياله، مستعداً للتدخل عند الضرورة، ذاك أن اللامبالاة ليست غياب المشاعر، بل رفضها.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(142).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


" أقوم بجردة لما كنت عليه من منذ زمن بعيد.ولست فخوراً بما كنته وأنا في العشرين ! لذلك أؤمن بالله، وبمحمد وعيسى وموسى .أؤمن بأولوية الإيمان. أؤمن بالحاضر ، لكني لا أمتلك ماضيا.كل يوم يمضي ،هو يوم ميت ، بلا أثر ، بلا صوت، بلا لون . كل صباح أولد من جديد ،حتى أراني مثل ثيبيبط! دورياً مرهف الاحساس ، رقيقاً وناجياً."

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :( 148).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


« اعلم أن الصبر هو سبيل الخلاص ومفتاحه. ففي آخر المطاف، أنت تعلم جيداً أن « اللّه مع الصابرين!  »

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(151).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانو يوقظوننا من النوم نسألهم أن يتركونا وشأننا، نقسم أن أحدا منا لم يحك أو يضحك أو يصيح، عبثا. فهم مقتنعون بأننا كنا نقيم احتفالا أو نعد للثورة. 

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(154).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


« الوحوش لٱ تحمل في محــيَّاها سيماء الفظاعات التي قد ترتكبها. »

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(157).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ربما انتقلت إلي  عدوى الأمل الذي يرود بجوار واكرين وبعض الاخرين؟ ذلك أني، للمرة الاولي، رحت اتخيل فيها لحظه إطلاق سراحي. وللمرة الأولى عاودت التفكير فى الشمس؛ وتراءت لي مجددا أنوار طفولتي. والذكريات التى قطعت صلتي بها، انبثقت محددا. فرأيت أمي متجلببة بالابيض، باسطة لي ذراعيها لتظمني إلى صدرها طويلا. بكت وأنا أيضا بكيت.   ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌

‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(167).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


منذ سبعة عشر عاماً ونحن نحيا في حفرة الموت البطيء تلك، تحت أعين الحراس أنفسهم. فنشأت بيننا عادات، واستفحل الروتين. وحده الموت كان ينحلّ من حين إلى حين، بإيقاع تلك الحياة.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(177).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


للموت رائحة.  مزيج من الماء الأجاج والخل والقيح.  مزيج جاف وحاد.  ولطالما ترافق صياح الخبل مع تلك الرائحة النافذة.  نعرفها بالحدس.  ولا داعي للتثبت منها .  وعندما يأتي الحراس صباحا حاملين الخبز والقهوة كنا نقول لهم: « ربما هناك ميت تحققوا من الأمر.»

الصفحة:( 183).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بفضل الصلاة كنت أبلغ أفضل مافي بتواضع من ينفصل، شيئاً فشيئا، عن جسمه ، مبتعداً عنه لكي لا يكون عبد عذاباته وشهوات هذاياناته. كنت أؤدي تلك الفروض المنزهة عن المنفعة بالمطلق، على الضد أولاء الذين يقيمون مع الله وأنبيائه قيوداً حسابية مدروسة.

فالإيمان بالله، وحمده على رحمته، والإقامة على ذكره، وتمجيد روحانياته، كل هذه كانت، بالنسبة إلي، ضرورة طبيعية لا أرجو في مقابلها شيئاً، أي شيء على الإطلاق.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(184).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


عاودني التفكير في الأستاذ والفراغ الهائل الذي خلفه برحيله. صوته الجهوري المشرق ما زالت أصداؤه في رأسي. لم يكن يخشى الموت ولم يثُر يوماً على الظروف التي نحيا فيها. كان دائماً يقول إنه في حال " عبودية خالصة للَّه "، وإنه موجود ليصلي لا ليُدين البشر. 

وقال لي ذات يوم، إن الإنسان له رفعة أكبر وهو ميت منه وهو حيّ، لأنه إذ يعود إلى التراب يمسي تراباً، وما من شيء أكثر رفعة من التراب الذي يوارينا ويغمض أعيننا ويُزهر في خلود بهيّ.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(189ــ 190).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانت مخالب الموت تجذب قلبي لكي تنتزعه فيما أجذبه في الاتجاه المعاكس لكي أستبقي الحياة؛ لكي أبقي عليها. لم يكن في نيتي بعد ثمانية عشر عاما أن أدع الموت يتفوق عليّ في معركتي. كنت أعلم أني سأفوز. كنت أتصبب عرقا، وأرى وجه الموت المتقبض وهو يكز على أسنانه ويبصق غضبه. لن أستسلم. لن أرتاب. 

الصفحة:(199).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كنت قد بلغتُ أقصى ما في المقاومة، وما عاد جسمي ينصاع إليَّ، ورأسي ينتفخ لفرط ما ردّّدتُ الصلوات نفسها والصور نفسها. ومع ذلك كنت أعلم أن النور سيغمرنا، وكنت أعدُّ له نفسي مغمضاً عينيَّ، متخيِّلاً تلك اللقاءات بعد فراق. 

كنت أقبل بالاستسلام قليلاً للكذبة. لم أكن بطلاً، بل رجل لم تفلح ثمانية عشر عاماً من الشدّة في أن تنتزع منه إنسانيته، أقصد نواحي ضعفه ومشاعره وقدرته على جَبْه أعاجيب البراكين التي طالما أنكرها. كان السور التي يحصنني قد بدأت تدب فيه الصدوع، فأسمع أصوات الذين رحلوا عنا. كان كل شيء يختلط في رأسي الذي ما عدتُ قادراً على إسناده إلى راحتي. وإذ هزمني الوجع ما عادت الوحدة تحميني.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(203ـــ 204).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كنّا حفاة. عصبوا أعيننا ووضعوا الأصفاد في أيدينا، وصوت مجهول يُجري التعداد؛ بتلك الطريقة علمتُ بموت الذين لم يكونوا في معتقلنا. 

ثمانية وعشرون ناجياً من أصل ثمانية وخمسين محكوماً. ثلاثون ميّتاً، ثلاثون معذباً، ثلاثون جلجلةً متراوحة في مدّتها وضراوتها.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(207).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مضت خمسة أشهر ولا أزال أجد مشقة في التعوُّد على الرفاهية والأمور اليسيرة المنال. 

عندما أدخل الحمام أقف لوقت طويل مستغرقاً في تأمُّل الصنابير بإعجاب. أنظر إليها ولا أجرؤ على فتحها. 

كنت أتحسسها مثل أشياءٍ مباركة، وأدير مفتاحها ببطء وطول أناة. 

وعندما يجري الماء كنت أقتصد فيه، وأدَّخر كل شيء. عانيتُ الأمَرَّين في اعتيادي الخُفَّين. 

أسير على رؤوس أصابع قدميّّ الحافيتين كأني خائف من الإنزلاق أو من توسيخ البلاط. 

وسمعي صار مُرهفاً على نحوٍ عجيب. أسمع كل شيء، ولا يفوتني أمر. كان ذلك مزعجاً، إذ تتناهى الأصوات إلى مسمعي مضخَّمة. 

وفي غمرة الصمت يستحيل الطنين في أُذُني إيقاعاً حادَّاً ومتصلاً. 

كانت عيناي تلتهمان الصور من دون أن تعرف ما هي، ومن دون أن تنتقي منها. كنت أشْبَه باسفنجة، أمتصُّ كل شيء؛ أحشو نفسي بكل ما يعرض لي. 

وإذ ذاك أدركت أني مولود جديد من صنف نادر: لقد جئتُ إلى العالم وكنت مكتملاً قبل أن آتي إليه. كل شيء يذهلني، كل شيء يفتنني متخلياً عن إصراري على فهم كل شيء، وخصوصاً تفسير الحالة التي كنت عليها لمن هم بقربي.

 ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‏‌‌‌الصفحة :(221).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان هذا الكتاب ضمن الكتب الشهرية لمجموعة اقرأ للقراءة الجماعية لشهر أكتوبر

 شارك القراء بهذه الباقة الملهمة من الاقتباسات

نفعنـــا الله وإيـــاكـم

تعليقات