فنجان ذكرى - قصة نجاح

فنجان ذكرى – قصة نجاح – بقلم ريحانة

فنجان ذكرى – قصة نجاح –

✍️ بقلم: ريحانة

فنجان ذكرى – قصة نجاح

كانت تجلس في ركن شرفتها الصغير، والنسيم يداعب ستائرها البيضاء، وأمامها فنجان شاي تفوح منه رائحة النعناع التي تأسر حواسها كما كانت تفعل دائمًا. نظرت إليه طويلاً، ثم همست في سرّها بدهشةٍ ممزوجة بالأسى: أحقًا مرّت خمسة أعوام من عمري دون أن أحقق فيها إنجازًا واحدًا؟! يا لهباء الأيام... ويا لضياع العمر!

لم تكن فتاةً عادية قطّ، فكل ما فيها كان يوحي بالاختلاف؛ في فكرها، وذوقها، وحتى في صمتها. كان استحقاقها للنجاح كبيرًا كحلمها، وكانت تؤمن منذ البدء بأنها ستصبح علامةً فارقةً في زمنها. فمن مثلها جمالًا وأدبًا وعلماً؟! لقد عشقت الكتب حتى التصق بها لقب "سوسة الكتب" الذي أطلقه عليها أعمامها منذ أن كانت طالبة في المرحلة المتوسطة، فصار لقبًا يرافقها كما ترافق الظلّ صاحبَه.

لكنها اليوم تتساءل بمرارة: أيمكن أن تكون تطلعات الأمس قد دُفنت تحت أنقاض اليأس؟ يالَسذاجة الأحلام حين تُغري صاحبها بوهمٍ لامعٍ لا يلبث أن يسقط على رأسه! ويالشباب حين يفيض ثقةً حتى يخال المرءُ نفسه مالك الدنيا في قبضته.

ارتشفت من فنجانها رشفة صغيرة، وأغمضت عينيها، لتعود بذاكرتها عشر سنواتٍ إلى الوراء… إلى تلك الحادثة الأليمة التي أفقدتها سمعها إلى الأبد. تذكرت تفاصيل مرضها الطويل، وعتمة أيامها التي غمرها الاكتئاب، وكيف انسحبت من العالم رويدًا رويدًا، حتى غدت حبيسة غرفتها، خارج الزمان والمكان، تسمع الصمتَ فقط، وتحادث الفراغ. كانت أمّها وحدها تصارع كي تعيدها إلى الحياة، تخشى أن يسرقها الحزن وأن يفوتها قطار العمر والزواج.

كم كانت تسأل ربها بمرارةٍ لا تخلو من عتب: “لماذا أنا؟ ما الذنب الذي جنيته؟ كيف سأعيش ناقصةً في مجتمعٍ لا يرى إلا الوجاهة والوساطة؟ كيف سأحلم وأنا صمّاء؟!”

سنواتٌ خمسٌ قضتها خلف الجدران، سجينة خوفها من الناس ونظراتهم، من الشفقة، من الرفض، من أن يُنظر إليها ككائنٍ منقوص. كانت تعاقب نفسها بلا رحمة، تُصلّي وتبكي، وتؤمن، لكنها تُعاتب القدر في صمتٍ كسيرٍ لا يسمعه أحد. أيُّ حُلمٍ يمكن أن يزهر في قلبٍ أغلق نوافذه على الحزن؟

ثم جاء العام الخامس… عام التحوّل والنجاة. حين اضطرت أسرتها إلى النزوح نحو العاصمة الباردة، هربًا من الحرب والموت، لم تكن تعلم أن تلك الخطوة ستكون ميلادها الثاني. هناك، في المدينة الجديدة، شعرت لأول مرة أن الحياة تمنحها فرصةً أخرى، وأن الإعاقة ليست نهاية، بل بدايةٌ مختلفة.

شيئًا فشيئًا تصالحت مع ذاتها، وتقبّلت حقيقتها الجديدة: نعم، أنا صمّاء، لكنني لستُ ضعيفة. فكّرت أن النهوض لا يكون إلا من ذات الموضع الذي سقطنا فيه، فبدأت من حيث انتهت قصتها مع الصمت. تعلّمت لغة الإشارة، وتعمّقت في عالم الصمّ، ثم شغلت منصبًا في إحدى الجامعات كمحاضِرة في قسم التربية الخاصة، بعد أن رأت الإدارة فيها الكفاءة والإلهام.

ومنذ ذلك اليوم، كانت كل خطوةٍ تخطوها تُعيد إليها الحياة من جديد. في خمس سنواتٍ فقط، شغلت أكثر من ست وظائف في جامعاتٍ ومنظماتٍ مختلفة، وحققت نجاحًا باهرًا أينما حلّت، وصارت مثالاً للطموح والإصرار. تعلمت أن تحبّ الناس والحياة، أن تسامح القدر، وأن ترى في المنع منحة، وفي الألم درسًا، وفي الصمت لغةً أعمق من الكلام.

لم تكتفِ بالعمل والإنجاز، بل وجدت الحب أيضًا؛ حبًّا صادقًا لا يرى النقص بل يرى الكمال في الرضا، فارتضى بها شريكة عمرٍ ومكملة دين. والأهم أنها وجدت ذاتها، واستعادت بريقها القديم، وتيقنت أن المحنة ليست إلا طريقًا إلى المنحة، وأن الإيمان حين يسكن القلب يُنبت فيه نورًا لا يخبو.

وضعت فنجانها بهدوء، وقد برد شاي النعناع، لكن دفءَ الرضا كان يسري في عروقها. ابتسمت لنفسها وقالت: من قال إن في الناس كاملاً؟ كلنا نحمل نقصًا ما، ولكن المحروم حقًا هو من حُرم الخُلق، لأنه أقسى أنواع الحرمان. نحن بشر، نخطئ وننهض، نتألم ونتعلم، ويبقى الخوف واليأس أعداءنا الحقيقيين، ويبقى الكمال لله وحده.


✨ قصص ملهمة لأولئك الذين قاوموا بؤس الحياة بصبرٍ وإيمانٍ عظيم.

تعليقات