🌊 الوادي .. جمال .. وألم - قصة نجاح
بقلم : عائشة السعيدية
1. شاطئ الأمان وذاكرة الإعصار
جلست على الشاطئ أراقب صغيري وهو يلعب بالرمل عندما أقبلت علي فتاة مهذبة تبدو ملامحها مألوفة لدي لتحييني بلهفة وسعادة أخجلتني من نفسي لأنني في تلك اللحظات لم أتذكرها جيداً، لكنها سارعت بتعريفي بنفسها مبدية تقديرها لأنني بكل تأكيد لن أتذكر كل طالبة علم كانت ضمن قائمتي يوماً.
تذكرت تلك الفتاة الراقية وفي لمحة سريعة مر بذهني مكان إقامتها لأبادرها بالاطمئنان عليها وعلى أهلها بعد أهوال إعصار شاهين الذي مر بهم وهو من الدرجة الأولى في 4/10/2021.
وقفت واجمة وكأن سؤالي كان صفعة قوية لم تتوقعها وجلست على المقعد الذي كنت أجلس عليه وجلست بجانبها لأجد دموعاً تنهمر لعلي فتحت جرحاً لم يشف بعد ووجدت نفسي أصبت بخرس فجائي لم تسعفني حروف الدنيا لأنطق كلمة مواساة أو اعتذار أو أي شيء.
احتضنها.. ثم قالت وهي تنشج: ألم يصلك أستاذتي ما حل بنا وبقريتنا الوادعة الآمنة كما رأيتها في زيارتك لها؟
قلت مجيبة بصوت لا أدري سمعته أم لا من الغصة التي ألجمتني: بل سمعت.
أكملت: لا أعتقد أن الواقع قد وصلك مكتملاً..
2. الوادي يجرف الأحباء والبيوت
تركتها لتتحدث بصوت مخنوق ودموع تنهمر ..
لقد فقدت جدي وجدتي وإخوتي بعد أن جرف الوادي منزلنا من أساساته بالكامل ولم يبق منه أثر
أبي جرفه الوادي أيضاً ليتعلق في أحد أعمدة توصيل الكهرباء وليبقى إلى الآن لا يستطيع التحدث من هول الموقف الذي مر به ليجد نفسه بين الحياة والموت في اللحظة التي لم يستطع إنقاذ والديه ولم نعد نرى إلا الدموع تنهمر وكأنه يجتر الذكرى في كل لحظة.
لم أكن موجودة فالبيت لطبيعة عملي التي تعرفينها. ليلتها كدت أجن ولا أدري ماذا أفعل وأتصل عليهم ولا مجيب فكرت في الذهاب إليهم لكنني لا أستطيع بسبب حظر الحركة في تلك الليلة المشؤومة.
وفي الصباح كانت وسائل الإعلام تبث المشاهد التي لم تخطر على البال يوماً أننا سنشاهدها..
3. رحلة البحث عن الناجين والمفقودين
هرعت إلى سيارتي لأذهب إليهم فكل الهواتف تعذر الحصول على المشترك المطلوب لكل من أعرفه هناك.
ولكن الأمر كما تعلمين كان صعباً لانقطاع كل الطرق لم تكن هناك من وسيلة للوصول إليهم إلا بالطائرات التي بقيت لأربع وعشرين ساعة تالية وهي تنقل الناجين الذين وجدت أبي بينهم بعد أن علمت أننا علينا مراجعة أماكن الإيواء للقاء أقاربنا الناجين.
كان وقتاً عصيباً ليومين وأنا لا أعرف مصير عائلتي ولا من يعطيك جواباً إلى أن التقيت أحد الناجين وأخبرني عن أبي أنه في المشفى لوضعه الصحي الحرج. سألته عن بقية أسرتي قال لا يعرف وربما لم يستطع إبلاغي لحظتها لصعوبة ذلك عليه.
دخلت على أبي وهالني ما رأيت، تخيلي كل شعره تحول للبياض من رعب الموقف ولا يستطيع تحريك أطرافه ووضعه في العناية المركزة وحالته ميؤوس منها فجسمه لا يتقبل الحياة.
حاولت الدخول عليه وبعد عناء وتوسل دخلت وأنا منهارة داخلياً أهذا أبي الذي كان رمزاً لقوتنا ومنه نستمد الصمود في المواقف.
أخذت أهمس في أذنه وأتحدث إليه: أنا هنا يا أبي .. أرجوك انهض من أجلي من أجل حبيبتك الصغيرة.
بقيت لساعة أتكلم لا أدري ماذا قلت وما الذي لم أقله له.
تركته ووضعه مستقر، وذهبت للبحث عن بقية عائلتي في قائمة المشفى لكنني للأسف لم أجدهم.
قيل لي اذهبي لمركز الإيواء وللدفاع المدني، ذهبت ولم أجد جواباً. قدمت بلاغ مفقودين. بدأت أنهار داخلياً وأنا أرى سكان قريتي لا أحد يعرف عن الآخر أحيّ هو أم ميت.
4. الرمال الممتدة... موت وبداية جديدة
بقيت مع أبي بعد أن تركت رقم هاتفي للتواصل في حال وجدوا مفقوداً بالأسماء التي قمت بالإبلاغ عنها. ويبدو أنه بدأ يشعر بوجودي معه فبدأ بتقبل العلاج والتحسن ولله الحمد.
مر أسبوع وأنا لا أنام ولا آكل جيداً. بدأت في الضعف والمرض ودخلت الطوارئ لأحصل على مغذيات وريدية ومنوم لثلاثة أيام لم أنتبه. انتبهت مفزوعة على أبي لأهرع عليه ووجدته منتبهاً لكنه لا يتكلم.
علمت أن الجهات المختصة أعادت فتح الطريق للقرية، حملت نفسي منطلقة إلى هناك وليتني لم أذهب… لم أتخيل المشهد وأنا أقف هنا وأرى أرضاً قاحلة.. مكان البيت رملة ممتدة كأنني في هضبة رملية على جانبي أحد الوديان التي اعتاد أبي أخذنا إليها للاستجمام والمتعة…
أين بيتنا وبيوت الجيران وبقية البيوت التي أصبحت قفراً من بعد عين. جلست على الرمال لا أدري كم من الوقت مر علي. أين جدي وجدتي وإخوتي؟ أين بيتنا العامر بالضيوف وأصوات كبار السن في القرية الذين لا يفارقون جدي على قهوة الضحى والعصر وأحياناً في رمسة بين المغرب والعشاء.
أين جدتي التي ما تركت تطريز ثيابها المميزة بيدها المباركة وتحاول تعليمي إياه ولكنني لم أكن أتقبل الفكرة.. أين إخوتي نتشاكس ونتضارب ونتدافع ونضحك ونبكي ووو.
لم أجد جواباً.. ولن أجد… ربما داخلني اليأس فجأة أنني لن أراهم مجدداً… أصابني خدر غريب في جسدي وبقيت مكاني بلا شعور إلى أن حل الليل المظلم على قريتنا المضيئة التي ما عرفتها مظلمة مذ جئت إلى الدنيا.
لا أعرف كيف تمالكت نفسي وفارقت المكان وعدت إلى أبي بلا حواس ولا شعور.
5. تحويل الألم إلى عمل تطوعي وإنجاز
وجدته وقد تم إخراجه ولله الحمد من العناية المركزة إلى قسم الملاحظة وهذا مبشر بتحسن حالته. لاول مرة أبي يفتح عينيه وينظر إليّ كانت شاردة يراني ولا يراني. ارتميت في حضنه لكنه لم يضمني كما عودني.
تصدقين.. لم أبكِ ولم يبكِ أبي لا أدري لماذا… ولا أدري كم بقيت هناك وكأنني دخلت في غيبوبة إلى أن جاءت الممرضات لمتابعة حالة أبي الصحية. بقي أبي أسبوعاً آخر في المشفى وأصبحت صحته تساعده على الحركة والمشي من جديد.
خرجت به من المشفى، وعندما ركبت السيارة جاءني ذلك الإحساس المريع، أين أذهب به؟ أين نذهب أنا وأبي؟ هل يفكر أبي أن يعود لبيته؟ هل سيتحمل أن يرى ما رأيت؟ هل سيتحمل رؤية جثث أبيه وأمه وأبنائه بعد ان انتشلت من وحل الوادي بعد انخفاض منسوبه؟؟ ماذا أفعل يا رب… كيف أكمل الطريق؟؟
أخذت أبي معي إلى حيث أعمل وكرست حياتي للعناية به والحمد لله صحته الجسمية افضل لكن عقله لم يتقبل إلى الآن ما حدث، كلما زادت الذكرى أصبح يئن كمن تضعين جبلاً على صدره لكن رحمة الله أوسع به وبي.
**وأبشرك أيضاً** أنني التحقت بأحد الفرق التطوعية المساندة للمتضررين من الحالات الاستثنائية مثل شاهين وغيرها وقدمت معهم ولله الحمد العديد والعديد من جوانب الدعم المالي والنفسي والاجتماعي وكل ما أجيده.
والآن ولخبرتي في تطبيقات الحاسوب أعمل على تصميم تطبيق يتم من خلاله التسجيل والتواصل في أي حالة طارئة لنصل إليهم أسرع لنقلل من المخاطر والآثار المترتبة عليها.
وجدتني مأخوذة معها وهي تحكي واحدة من آلاف المواقف التي مرت في تلك الليلة وكانت نقلة في حياتهم جميعاً.
استأذنت تلك النبيلة عائدة إلى والدها الذي أحضرته معها إلى الشاطئ ليستمتع بهوائه العليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصص ملهمة لرائعين تغلبوا على بؤس الحياة بكثير من الصبر والإيمان