فرضية القراءة: لماذا هي فرضٌ حضاريٌّ لا قيام للأمم دونه؟
لمحة تعريفية بالمقال
"فرضية القراءة" هو مقال يهدف لإعادة الاعتبار لفعل القراءة، مؤكداً أنها ليست مجرد ترف ثقافي، بل هي أولوية قصوى وفرضٌ حضاريٌّ لا يُمكن لأمة أن تنهض أو تحقق استقلالها الفكري والحضاري بدونه. المقال دعوة للشباب والمجتمع لإدراك القراءة كمنهج حياة ووسيلة للتحرر الفكري والارتقاء بالنفس والوطن.
في زمنٍ تتراجع فيه العلاقة بين الإنسان والكتاب، تأتي هذه المقالة لتعيد الاعتبار لفعل القراءة، لا كترفٍ ثقافي، بل كفرضٍ حضاريٍّ لا قيام للأمم دونه.
ما من فرد أو مجتمع أو شعب يريد التميُّز عن غيره والاستقلال عن تبعيته للآخر، والسير في طريقٍ للمجد واضحة المعالم ومعروفة المسالك، إلا ويلج من بوابة القراءة أولاً.
القراءة: بوابة العبور للمعرفة والإدراك
تُعد القراءة بوابة العبور إلى المعرفة ونافذة الوصول إلى إدراك أسرار النفس والكون. ومن ثمّ الإلمام بأدق التفاصيل التي تربط بين مكونات نفسك والمحيط من حولك، وكيف تؤدي جميعها دوراً تكاملياً يفضي إلى صيرورة الحياة بهذه الصورة الفائقة الإتقان المتناهية الروعة في أداءِ وظيفتها المُناطة بها من لدن حكيمٍ خبير.
تُعد القراءة منهج حياة، ومشعل تنوير، وحبل نجاة يأخذك من ضيق الفكر وجموده ورتابة الحياة ومللها إلى عالم فسيح تنيره المعرفة وتحدد معالمه الأفكار الحية، بحيث يطرأ على حياتك تغير جذري تُعيد فيه ترتيب الأشياء بحسب أهميتها.
تنظيم الحياة وإعادة ترتيب الأولويات
كيف تبدأ التغيير؟
يبدأ هذا التغيير من تعاملك مع نفسك، فتعمل على تنظيمها والاهتمام بها بعد أن عرفت أهمية الوقت؛ حيث هو رأس المال الذي لا يُعوَّض بثمن.
فتعمل جاهداً على توزيعه بشكل عادل بين احتياجات نفسك وعائلتك ومجتمعك وأمتك أيضاً، بحيث تؤدي دورك التوعوي في الحياة بوجه يُحقق أهدافك المرسومة.
يحدث كل هذا عند ولوجك للحياة من بوابة (اقرأ) لتنبهر حقاً عندما تجد نفسك تحررت من الدوران حول نفسك والسعي المضني لتلبية رغباتك فقط.
تتساءل عندها: "أي نمط حياةٍ ذاك؟ وما قيمة الحياة بذاك الأسلوب؟"
تُدرك كم كانت تلك الصورة مدعاة للأسى عندما تشعر بالفارق المهول الذي أحدثته القراءة في حياتك، وكم هي غالية وثمينة هذه القيم التي غرستها المطالعة، والهدف النبيل الذي يستحق أن تبذل في سبيله كل الجهد، بحيث تغدو منارة وعي بين أوساط الشباب تسلك بهم الدرب الآمن وتأخذ بأيديهم إلى طريق الضوء، كي يكونوا أفراداً فاعلين مؤثرين في مجتمعهم ووطنهم ووسائل بناء لا وسائل هدم وتضييع، كما يريد الأعداء لأمتنا.
تحرير العقول من الأفكار الهدامة
الأهم قبل هذا، هو إفراغ الشباب أولاً من تلك الأفكار الهدامة التي يُحشى بها عقل الفرد منا، والتي تُغرقنا بها وسائل إعلام متعددة الأنواع تعمل ليل نهار بلا كلل كي تجعل من حياتنا حياة أكل وشرب وغرائز.
عندها تفتقد الأمة أغلى ثرواتها وأثمن شيء لديها، وهو عقول أبنائها.
القراءة لتعرف ربك وتُدرك أسرار الكون
بالقراءة تعرف ربك الذي خلقك فسواك فعدلك، تعرفه على بصيرة... وتتعرف على عظيم ملكه وجلاله وقدرته، فتعبده بحب وتتقرب إليه بشغف، وتعرف أن طريق الوصول إليه ليس بعبادات شكلية مُفرغة المحتوى، ولكن بقلب مُحب وعبادة برغبة في البقاء بين يديه وعلى عتبات أبوابه، حنواً وطلباً لرضاه.
ثم تعرف أن الكون كله محراب عبادة، فالمجاهدة في سبيل نجاة الإنسانية وسعادتها أرقى أنواع العبادة، وبها ولها جاء الأنبياء عليهم السلام ثم المصلحون من بعدهم على امتداد الزمن.
اقرأ لتعرف أسرار الكون وتتمكن من فتح مغاليق الطبيعة. ستعرف أسرارها الكامنة ومكوناتها كيف تعمل بوجه تكاملي في الوظيفة والأداء، وكيف أحكمها الخالق العليم فأودع في أغوارها كل مقومات الوجود وجعل فيها من كل شيءٍ موزون.
الفارق بين إنسان الأمس واليوم
ستعرف الفرق الهائل بين إنسان الأمس كيف عاش حياةً بدائية قائمة على التنقل والترحال حيث الماءُ والكلأ، وبين إنسان اليوم الذي انطلق من بوابة (اقرأ) فأضاءت له الطريق لمعرفة تفاصيل الطبيعة المبهمة واستخراج ثرواتها وصهر معادنها وكيفية التعامل معها بما يُحقق حُلم الإنسان في خلق حياة أسهل، يكون للآلةِ فيها الدور الرئيسي في القيام بأنشطتها.
فصيّر تلك المعرفة ثورة صناعية أساسها معامل الأبحاث العلمية ومعاهد الدراسات التحليلية، أفضت نتائجها إلى إحداث تغييرٍ جذريٍ في أسلوب الحياة ونمطها، بحيث غدا الكون قرية صغيرة متقاربة الأطراف. لتشمل هذه الثورة كل مجالات الحياة: الخدماتية، الاقتصادية، التقنية، العسكرية، والإعلامية، لتدخل شعوب العالم في سباق حميم على امتلاك أسباب القوة والتقدم والاكتفاء الذاتي وتبادل المنافع المشتركة.
العرب على هامش الحياة: نتيجة لإهمال القراءة
ما عدانا نحن العرب القابعين على هامش الحياة، المُصنّفين بأكبر سوق مستهلكةٍ مفتوحة، يرد إلينا كل شيء رديء، حتى أفكارهم وأزياؤهم ونمط حياتهم التي لا تتناسب في كثير من جوانبها مع قيم مجتمعاتنا الإسلامية ومُثُلها السامية.
مما خلق واقعاً وجدنا أنفسنا فيه نقتات فتات الآخرين، ونشتري منهم بخيرات أوطاننا ما لم يُعد عندهم صالحاً للخدمة، وما حلّت مكانه وسائل أكثر أريحية وأقل تكلفةً.
حدث هذا عندما أهملنا العقل الذي هو جوهر الإنسان وقيمته الفعلية، وذلك لمّا تركنا القراءة التي كانت أول أمرٍ اتصلت به الأرض بالسماء عند مبعث خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو أدركنا سرها وكيف نالت هذه المكانة حين كانت الأمر الأول من مجمل أوامر الشريعة الخاتِمة لشرائع السماء، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من حال لا يسر صديقاً ولا مُحباً غيوراً.
نداء للعمل والمراجعة
لكن هذا لا يعني النهاية، بل إن معرفة العلة أولى دوافعك لذهابك للطبيب. لعلها وقفة مراجعة ومحطة تأمل نُدركها على كافة المستويات.
لنعمل جاهدين بكل جهدٍ متاح لما فيه خير أمتنا وكرامتها، شعارنا على طول الدرب:
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"
فهل نعيد للقراءة مكانها الأول كأمرٍ ربانيٍّ وشرارةٍ لكل نهضة؟