فلوكي
بقلم : محمد الصناعي
من شاهد مسلسل (الفايكنج) أكيد يعرف فلوكي صديق راجنار الوفي وصانع أسطولة العملاق الذي زلزل شواطئ أوروبا في تلك الحقبة من التّاريخ.
قبل أن يتحوّل الفايكنج إلى مملكة تغزو وتحتل، كانوا قراصنة يغيروا للسّلب والنّهب والقتل بلا أسباب، وكانوا وثنيين، لهم إله يُدعى أودين وجنّة تسمّى فالهالا.
فلوكي هذا هو ما تبقى من ذاكرة المسلسل الدّموي الطّويل، كان سفّاحًا بلا إنسانية، إيمانه الرّصين بدينه الوضعي صنع منه وحشًا متطرفًا ضدّ المخالفين، ولأنّه لم يجد من المخالفين سوى المسيحيين خلف البحار، جعل هوايته الوحيدة هي قطع كلّ عنقٍ يعلّق عقد الصّليب، حتّى أنك تلاحظ في كلّ مرّة يغزو الفايكنج مملكة من ممالك أوروبا، وهم يدخلون جميعًا القصور استباقًا لذّهب الملوك وأشيائهم الثّمينة، كان فلوكي يدخل الكنيسة ليقتل الأساقفة والرّهبان، وهذا حظّه الوافر من الغزو!
حينما تكون السّواعد وثنيّة والرّقاب من أهل الكتاب، لابد لعاطفتك أن تنحاز إلى أقربهم لدينك وأبعدهم عن الوحشية والدّمويّة.
لهذا السّبب وجدتُني متعاطفًا مع أصحاب الكنيسة على مختلف مراتبهم الدينيّة، رغم أن المسلسل لم يقدّم النّصارى بافضل مما شاهدتهم في مسلسلي عثمان وأرطغرل. إيمانهم الرّاسخ في الرّخاء، وقلوبهم الواجفة عند الشّدة، ليس في إيمانهم ما يربط جأشهم، جبناء لا يتمالكون أنفسهم عند الفزع، إذا دنى السّيف من رقابهم، كان آخر إيمانهم أن المسيح خذلهم.
وعلى قدر التّعاطف وجدتني أعادي فلوكي، على الرغم من شخصيته السّاخرة وضحكته الطّريفة وهو يقطع أعناقهم بمتعة من يمارس هوايته المفضّلة!
كلّ هذا التّعاطف الذي كان منّي ناحية النّصارى، بالرّغم من عدواتنا لهم، وبالرّغم من الصّورة السيئة التي ظهروا بها خلال المسلسل، فيا تُرى كيف سيكون حالي لو كانوا مسلمين؟
من حسن الحظّ أن المسلسل تجاهل المسلمين، أو تجاهلهم تاريخ الفايكنح، على أي حال، الحمد لله كثيرا..
ما زلتُ أقول قولي هذا، حتّى نهاية الجزء الرّابع، وحينها وقع ما كنتُ أحمد عدم وقوعه!
في إحدى غزوات الفايكنج البحرية كانت هي الأطول، رست سفنهم على شواطئ أسبانيا، ليدخلوا كالضّواري الجائعة مدينة ساحلية على صوت أذان العشاء!
ويا الله ما أقسى هذا المشهد على الغيور لإسلامه!
للمرّة الأولى أشاهد المسلمين في مسلسل غربي، هذا مشهدٌ طالما تحاشيت حدوثه، ولولا صوت الأذان العذب، ما تشجعتُ على استمراريّة المشاهدة، فقلبي الكاره للظلم لا يحتمل رؤية صورة ظالمة عن دين العدالة والسّلام..
لقد جازفت في الاستمرار رغم احتمالية أن يكون صوت الأذان العذب فخًّا، فكان هذا كلّ ما رأيت:
وقف فلوكي في موقف غريب يناظر في كلّ الآفاق، كان صوت الأذان يأسر القلوب، وفلوكي الوثني المتطرّف يتقفّى مصدر الصّوت أو ينجذب له حتّى دخل المسجد وهم قائمين في الصّلاة صفوفًا كالبنيان، وكانت تلاوة الإمام عذبة مؤثّرة، وفلوكي يجتاز صفوف المصلّين في حالة من اللاوعي، حتّى انتهى إلى المحراب، وقف يناظرهم في دهشة بل وخشوع، حتّى دخل أصحابه على إثره، وعلى الفور قام أحدهم بقطع رأس الإمام، ولكنّه لم يقطع الصّلاة، ففي ذات اللحظة تقدم مصلٍ يؤم المصلّين من حيث انتهى الإمام الشّهيد، وهنا زاد فلوكي ذهولًا!
إنّه يرى ثباتًا لم يرَ مثله في كلّ مرّة غزا كنيسة، ليقتل راهبًا مرتعشًا سقط الكتاب المقدّس من يده فور أن رأى السّيف!
وحين هم أحد أصحابه أن يقتل الإمام الثاني، وقف في وجهه حائلًا مثل جبل، صارخًا: من أراد أن يقتل أحدًا منهم، عليه أن يقتلني أولًا.
لم يجرؤ أحد منهم أن يقف في وجه فلوكي، وأمرهم بالخروج فأتمروا. خرجوا وهم في حيرة من أمرهم:
فلوكي الدّيني المتطرف الذي يركب البحر من أجل قتل المخالفين قرابين لإلهه أودين يمتنع اليوم عن قتل هؤلا ويمنعنا عن قتلهم، ما الذي يجري؟
لا يعلمون، هو أيضًا لا يعلم، خرج بعدهم وهو أشدهم حيرة، خرج وهو ينظر ورائه كما ينظر النائم في الحلم..
بعد ذلك ركبوا سفنهم وأبحروا عائدين إلى شاطئهم. في رحلة الإياب كان فلوكي الساخر الفضولي الذي لا يتوقف عن الثرثرة على زاوية من السّفينة واجمًا لا ينطق.
هذا المشهد الموجز الذي لا يتجاوز الدّقائق العشر، كان حظ المسلمين من المسلسل ذات الأجزاء الخمسة، بالنسبة لي كان الختام بل وصار المسلسل كلّه. لم أشاهد بعده مشهدًا، ولم أعد أتذكّر ما كان قبله خلال أربعة أجزاء، إلا ما يخدم هذه النّهاية ذات الدقائق العشر!
من تلك الليلة حتّى هذا الفجر، بكلّ سوء الظّن أتساءل: ما الرسالة السّلبية التي أراد المسلسل إيصالها من خلال هذا المشهد العابر؟!
سهرتُ كثيرًا، وحتّى هذا الصّباح لم أجدها!
إنّما، لولا هذا المشهد الهامشي الضئيل ما وجدتُ لنفسي مبررًا لإهدار وقتٍ في مسلسلٍ دموي لا يحمل رسالة إلى المشاهد، سوى (كن وحشًا بلا رحمة، وبطلًا بلا أخلاق)!
لولا هذا المشهد لكان ذلك المسلسل من المسلسلات التي أستحي الإفصاح عن مشاهدتها!
تعليقات
إرسال تعليق