خمرة الخيال
بقلم: شموخ كحلانية
بتُّ أتجرعُ خمراً معتقةً لا تُسكرُ ولا تُنسي، تسقينيها الحياةُ جرعاتٍ مضاعفةٍ حتى ظننتُها ماءً يروي عطشًا قديمًا، من شدة ما قد اعتدتُ مرارتها. كنت أظنها تسكرني فتنتشلني من عالمي المليء بالبشاعات، لكنها لم تزدني إلا صحواً مؤلمًا ووعياً موجعًا، حتى تيقنت أن هذه الحياة لا تهبُ النسيان، بل تُعيدُ الوجع في كل رشفةٍ جديدة.
أدركت أن الشيءَ الوحيد القادر على تخديري، على سحبي من محيطي الصاخب إلى فضاءٍ أكثر سكونًا، هو الخيال. هناك، أبحر بمخيلتي في محيطاتٍ لا نهاية لها، أرى جزرًا لا أعرف لها اسمًا ولا مرسى، ولا أعلم إلى أين سأصل. لكني أعلم أنني في نهاية الرحلة، سأعودُ إلى واقعي؛ أحيانًا بروحٍ محطّمةٍ أكثر، وأحيانًا بروحٍ ما زالت تقاوم وتتنفس رغم كل العواصف.
روحي اليوم باتت متشطّرةً إلى دويلاتٍ متنازعة، كحال بلادي الجريحة التي يندى لها الجبين. تتوزع في داخلي الولاءاتُ والمشاعر، بين الأمل واليأس، بين حبّ الحياة ورغبةِ الهروب منها. أذرفُ دمعي حسرةً وألماً، ليس فقط على ما آل إليه وطني، بل على ما صرتُ إليه أنا أيضًا.
كم غريبٌ أن يكون الخيالُ هو ملجأ العقول المتعبة، والدواءُ الوحيدُ لمن أرهقهم الوعي. فيه أهربُ من تفاصيلٍ موجعةٍ، وأحاول أن أرى الأشياء من زاويةٍ لا تدميني. هناك، أُعيد ترتيب الحكايات، وأكتبُ نهاياتٍ جديدةً لم يُتح لي أن أعيشها.
في إمكانك أن تغيظ الحزنَ بالفرح، وأن تُهزمَ العتمةَ ببصيصِ ضوءٍ صغير، وأن تتحدثَ ولو مع الورق، فالكتابةُ وحدها قادرةٌ أن تُنقذك من الغرق في واقعٍ لا معتم.
🌙 "الخيال ليس هروبًا من الواقع، بل عودةٌ إليه بقلبٍ أكثر احتمالًا." 🌙