(على هامش الأدب ) بلاغة التعريض

على هامش الأدب – بلاغة التعريض

على هامش الأدب – بلاغة التعريض

بقلم: محمد الصناعي

في بعض الطريق، تقدّمت بغلةُ سنان النميري خطوةً على فرس الأمير عمر الفزاري، وما إن سبقت به قليلًا حتى التفت إليه الفزاري قائلاً بلهجةٍ ظاهرها اللطف وباطنها المقصود:
“غضّ من عنان بغلتك يا نميري!”

قد يظنّ السامع أن الأمير يروم التمهّل فحسب، لكن الكلمة — حين تخرج من فم فزاريٍّ خبير باللفظ — تصيب معنى أبعد من خطى الدابة. إنها كلمة تسير على سطح الحدث، لكنها تُشير إلى عمقٍ ممتد في تاريخ الهجاء حين قال جرير:

فغُضَّ الطرفَ إنّكَ مِن نُميرٍ
فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابَا

هذا هو جوهر بلاغة التعريض: أن تصيب المعنى دون أن تجرحه، وأن تبلغ المقصود دون أن تُسمّيه. إنها البلاغة التي تقف بين الكناية والتلميح؛ أشهى من هذه وأخفى من تلك، وتنشئ معناها بالإيماء لا بالإملاء، وبالظلّ لا بالشمس.

ولم يكد الفزاري يُسدل ستار التعريض حتى رفعه النميري بلمح البصر، وردّ على الفور:
“إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير!”

أهو ردّ عابر؟ كلا. إنه سهمٌ يخرج من جعبة الفهم قبل جعبة اللسان، يردّ التعريض بالتعريض، ويستدعي بيت سالم بن دارة:

لا تأمَنَنَّ فزاريًّا خلوتَ به
على قلوصِكَ واكتُبْها بأسْيارِ

فضحك الأمير وقال: “قاتلك الله، ما قصدتُ هذا!”
فأجابه النميري: “ولا أنا…”

يا لها من لحظةٍ لغويّة خاطفة! كأنّ المعنى تحرّك قبل أن يتحرّك اللسان. بديهة لا تنكسر، وذاكرة لا تخون، ولسان لا يعتريه وَهَن، وعقول كانت — بالفطرة — تعرف موقع السهم قبل أن ينطلق.

إنّ هذه اللمحات ليست تلاعبًا لفظيًا عابرًا، بل هي بقايا مجد عربيّ مضيء، كانت البلاغة فيه مزاجًا يوميًا، لا مهارة مكتسبة.


وذات يوم، صادفت ناقدًا يتناول بيتًا من الشعر، فما كان منه إلا أن قال: “هذا هراء بلا معنى.”

والقول هذا، في ميزان العقل والذوق، هراء لا معنى له. فاللفظ — أي لفظ — يحمل معنى، منفردًا كان أو مجموعًا. وليس في العربية كلمة جاءت سدى. وكيف يقال هذا، والله عز وجل ابتدأ سورًا بحروف مقطعة كانت — ولا تزال — آيات لا يتخطاها قارئ، ولا يصفها عاقل بأنها بلا معنى!

إنّ النافع في عبارة الناقد أنه أيقظ فيّ بلاغة النثر، فقلت له يومها قبل أن أغادره:

ينبغي لبصرك أن يكون حادًّا حتى تُبصر مغرز كلِّ سهم،
فقد تظنّ الرامي يطلق سهامه في الهواء،
ولكن الحقيقة أنّ نظرك قصير… وأهدافه بعيدة المدى.

وما كنتُ أرمي يومها إلا إلى بلاغة التأويل؛ البلاغة التي يفتقدها بعض من يظنون أنفسهم نقّادًا، فلا يدركون من النص إلا سطحه، ولا من الشعر إلا قافيته، ولا من البلاغة إلا ما يلامس أطراف أصابعهم.

بلاغة التأويل هي التي تجعل الناقد قادرًا — إلى حدٍّ ما — على مجاراة بلاغة الشاعر، وتمكّنه من التقاط ما يختبئ بين السطور، لا ما يُلقى في ظاهرها.


لقد فهم النميري التلميح قبل أن تُكمل العبارة طريقها إلى سمعه، وردّ بردٍّ لا يحتاج إلى استحضار ولا استعداد، كأنه ردّ العطسة قبل أن تخرج، أو ردّ السلام قبل أن يكتمل لفظه.

قسمًا… لو أن رجلًا صدّ سهمًا بسهم، ما كان ذلك عندي أعجب من هذا التراشق اللفظي الدقيق! لغةٌ كانت يومًا بديهةً، وصارت اليوم جهدًا ودرسًا، بينما كانت — في زمنهم — نورًا يجري في العروق.

يا لفطنةٍ عربية انقرضت! وأمةٍ فقدت ما كان لها بالفطرة، فما استطاعت أن تستوعب محدثات العصر، فكيف — إذن — ستُجاريها؟

تعليقات